الرجوع

لماذا لا نُعدِّل العدسة؟

الخميس

م ٢٠٢٢/٠٢/٢٤ |

هـ ١٤٤٣/٠٧/٢٣

عندما ننظر إلى العالم حولنا، نستخدم نافذتنا الخاصة، أيْ عينَيْنا. لكن النظر ليس حاسّة حسّية فحسب. كُلٌّ منَّا ينظر إلى هذا الكون المتنوّع، الجميل والمخيف أحيانًا، من خلال عدسة خاصة به/ها. عدسة مُركَّبة غير نقيّة، لأنّها مِصفاة اختباراتنا، واعتقاداتنا، وثقافاتنا، ومتوارثاتنا، وأحكامنا المسبقة، ومخاوفنا. إنها عناصر دائرة الأمان الخاصة بكلٍّ منّا، منها الجماعي ومنها الفردي. البصر ليس سوى جزء من عملية النظر إلى ما يدور حولنا، ونحن نرى العالم من وجهة نظرنا؛ إذْ لكلٍّ منّا إطار أو مصفاة يقوم بالتأثير فيما نرى أو نعتقد أننا نراه.

بسبب رؤيتنا  لِلعالم بهذه العدسة، يميل دماغنا إلى التقاط المعلومة الأوّليّة التي ترِدُ إليه، وإلى اعتبارها الحقيقة الوحيدة. لكن الواقع هو أن المعلومة الأوّلية ليست بالضرورة كاملة، أو أقلُّهُ وحيدة. وأحيانًا ليست هي الحقيقة أو كل الحقيقة. فمثلًا: رؤية امرأة مُحجّبة في بلد علماني ذي إرث مسيحي، قد تُثير الخوف أو الغضب أو النفور لدى بعض سكانه: كالخوف على الهوية الثقافية، والخوف أيضًا من دخول ثقافة تَضرب المتوارثات والنضالات الآنفة، والخوف من المجهول، أو الغضب من ازدياد مظاهر الحجاب في شوارعهم، أو النفور من زيّ لا يحترم مشاعر الناس، ويعكس ثقافة غريبة عنهم. في المقابل، رؤية امرأة غير مُحجّبة في بلد محافظ ذي دستور مبني على الشريعة الإسلامية، قد تثير الغضب والاشمئزاز والخوف لدى بعض سكانه: كالخوف من دخول ثقافة غريبة وضربها للثقافة السائدة، والخوف من التفكك الأخلاقي، أو الغضب من عدم احترام قدسية المكان، أو النفور من عدم احترام مشاعر الناس وثقافتهم السائدة.

مِصفاتنا تؤثر في رؤيتنا للأمور، ومخاوفُنا ومتوارثاتنا وتجاربنا وقيمنا أجزاء لا تتجزّأ من تشكيل عدسة رؤيتنا. ومِن ثَمَّ، لكلٍّ منا منظار ووجهة نظر، ولا أحد يملك الحقيقة الكاملة، لأن الحقيقة خارج وجهات النظر. فالحقيقة (مع "ال" التعريف) تكون برأيي ثابتة، علميّة، وبسيطة. وكل ما عدا ذلك، هو مصفاة الأفراد والجماعات. وهي أجزاء مشروعة من "الحقيقة"، علينا الأخذ بها، إنّما مع الوعي بأنّها جزء من كلّ.

عدستنا تلك -رغم قوتها- ليست ثابتة لحُسن الحظ، والدليل اختباراتنا العديدة. نلاحظ ذلك عندما نُغيّر رأينا الذي اعتقدناه ثابتًا حول قضية ما بعد التمعّن في أبعاده مثلًا، أو عندما نَلِين، أو عندما نتعرّف إلى الآخر ونُصغي بتراحُم إلى وجهة نظره/ها. لذلك، ورغم وجود عدستنا التي تُعطينا الثقة بأننا "نَعْلم" –مع عدم امتلاكنا لكل أوجه الحقيقة-، يمكننا تعديلها لترى أفضل وأشمل وأبعد من الدرجة الأولى.

ماذا لو عدّلنا عدسة الخوف، وأضفنا إليها حب المعرفة والتراحم والثقة؟ ماذا لو أننا -بدلًا من الخوف أو الغضب أو النفور من "امرأة مُحجّبة" مثلًا-، عدَّلْنا عدستنا وتَعلَّمْنا معنى الحجاب للمرأة الملتزمة؟ ماذا لو اعتبرناها تمارس حقها الإنساني في تطبيق شعائرها الدينية، أو في ارتداء ما يناسبها؟ ماذا لو وثقنا بأنها تملك الوعي والذكاء لترتدي ما تريد، وبأنّها لا تهددنا بردائها؟

ماذا لو أننا -بدل الخوف أو الغضب أو النفور من "امرأة لا ترتدي الحجاب"-، عدَّلْنا عدستنا وأضفنا إلى ذاكرتنا الثقة بأنّها تملك من الوعي ما يكفي لتقرر ما ترتدي، وبأنها تمارس حقها، وبأنها لا تؤذي أو تُهدِّد أحدًا بردائها؟

بحسب موقع كل قارئ منكم(نّ) وثقافته، قد تتضارب ردود أفعالكم، وقد تَقبلون ما يتماهى مع ثقافتكم، أو ترفضون الوجه الآخر… وذاك هو تحدّي العدالة والتنوّع وقبول الاختلاف! هي معركة كلٍّ منَّا مع مخاوفه بحسب عدسته/ها. لكن الحقيقة العلمية والبسيطة والثابتة، خارج المواقع والعدسات. الحقيقة البسيطة هي أنَّ زِيَّ المرأة دورُه أقل بكثير مما نريد له، وأن لكل امرئ الحق في ارتداء ما يناسبه/ها، ولكلٍّ الحق في ممارسة شعائره/ها الدينية والعقائدية، ما دام لا يؤذي غيره جسديًّا أو نفسيًّا، وما دام لا يعتدي ولا يشكل خطرًا.

ماذا لو عدَّلْنا عدساتنا، ليصبح ما نراه أوسع وأكثر تراحمًا؟ ماذا لو تحدَّى كلٌّ منا الخوف وقال له: لن تُشوّه نظرتي إلى العالم حولي بعد اليوم، وسأواجهك بالمعرفة والانفتاح على كل ما هو غريب عن دائرة أماني، وسأواجهك بالتراحم مع ذاتي ومع الآخر؟ ماذا لو استبدلنا دور "الشرطي" لأحكامنا المسبقة، وإرادة التسلّط المعنوي على الآخر، بدور "سأضع نفسي مكان الآخر قليلًا"؟ عندها سنراه/ها من منظار جديد، متراحم وأكثر إنسانية. 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive