الرجوع

لماذا الطمع؟

الخميس

م ٢٠٢٢/١٢/٠١ |

هـ ١٤٤٤/٠٥/٠٨

عن هذا السؤال: "ما علة هذا العالم، أو سبب حروبه، وفقر أغلب سكانه؟"، قد يجيب معظمنا: الطمع وحب السيطرة. وهي إجابة منطقية إلى حدٍّ ما. الرغبة في السيطرة تنبع من مصدرين: الطمع، والشعور بالأحقية. 

الطمع هو شهية غير مضبوطة، لزيادة الامتلاك أو الاستعمال لأرباح مادية أو اجتماعية أو ثقافية. الطمع الجغرافي (موارد طبيعية)؛ والطمع الثقافي؛ والطمع الفردي والجماعي للسيطرة (المال، الموقع، التأثير، التملك…). للكثير من هذه الأسباب تنشأ الحروب، وتجري السيطرة على جماعات وشعوب ومواقع، وتُرتكب السرقات على صعيد فردي أو جماعي، وتُقمع أقليات هنا وهناك، وتُقر القوانين المجحفة، وتجري السيطرة على "الآخر" اقتصاديًّا، وفكريًّا، واجتماعيًّا.

من أين ينبع الطمع لدى الكثيرين؟ هل هو سمة طبيعية لا بد لنا من قبولها؟ وهل يولد البشر مع طمعهم، أم هو أمر مكتسَب؟ بحسب بعض الباحثين، للطمع سببان: سبب نفسي، وسبب اقتصادي. على الصعيد النفسي، يبدو أن الطمع يولد من حاجات دفينة غير مؤمَّنة. فيقوم العديد بالتعويض عنها عبر الامتلاك أو السعي لامتلاك "أشياء" لا يمكنها أن تحلّ مكان تلك الحاجات، لكنّ امتلاكها يعطي دفعة فرح واكتفاءً آنيًّا. لكن هذا الفرح الآنيّ، أو جرعة الأدرينالين المؤقتة، ينتهي بسرعة، ويُطلب المزيد منه. فتبدأ رحلة الرغبة في امتلاك "أشياء" أخرى أكثر، وأكبر.

بعض الحاجات الدفينة غير المؤمَّنة وراء هذه الدوامة قد تكون: الارتباط – القبول – العاطفة – التقدير – الانتماء – الرفقة – التعاطف – التراحم - المراعاة – التعاون – الألفة والمودة – المحبة – الاحترام - احترام الذات   السلامة – الأمان – الأمن – الاستقرار – الدعم - أن تَفهم، وتكون مفهومًا/ة – الثقة – الصدق – السلام – المشاركة – الراحة – المساواة – النظام - الحكم الذاتي – الاختيار – الكرامة – الحرية – الاستقلال - المساحة - المكانة الفردية.

كل تلك الحاجات جميلة في أصلها، يتساوى في امتلاكها كل البشر. يبدأ الاختلاف في الإستراتيجيات، التي يعتمدها كلّ فرد في السعي لتأمينها. إذن المشكلة الرئيسية ليست في الحاجات الدفينة غير المؤمّنة، إنما في إستراتيجيات السعي لتأمينها أو التعويض عنها. في حين قد يسعى أحدهم/إحداهنّ إلى العمل الدؤوب، أو الاكتفاء، أو حلّ النزاعات بطريقة بنّاءة، أو السعي لتحسين وضع الجماعة والمساواة… قد يعتمد بعضهم/نّ الآخر الطريق الأسهل: السعي لوضع اليد على الموارد، أو على ممتلَكات الآخر.

ولا بد من الإشارة إلى أن الطمع يبدأ أيضًا من إرادة النجاة، أو الحياة، أو تأمين استمرارية النسل. بمعنى آخر، مصدر الطمع جيّد، لكنه يتحول إلى أداة للسيطرة على الآخر، أو لوضع اليد على ما ليس للفرد أو الجماعة.

أما السبب الآخر للطمع وحب السيطرة -بحسب بعض الباحثين-، فهو اقتصاديّ. فيسعى الكثيرون/ات لتحقيق أرباح مادية عالية، بحثًا عن السعادة والأمان، لأننا في عصر يربط السعادة بالمستوى المادي. لكنَّ الكثيرين/ات ممن جنَوا تلك الأموال الطائلة، يعترفون بأنهم لم يبلغوا السعادة المنشودة بعد. وقد قامت إحدى الدراسات باستطلاع أحوال أفراد كسبوا الملايين (ثروات قُدِّرت بمعدّل ٧٨ مليون دولار للفرد)، وسألتهم هل كانوا يشعرون بالأمان. فكانت الإجابات موحدة: كلا. وعند سؤالهم ما نسبة الأرباح المالية الإضافية التي قد تجعلهم أكثر أمانًا، جاءت معظم الأجوبة: ٢٥٪ أرباح إضافية. إذن، يملك هؤلاء ما يفوق الـ٣٠ مليون دولار، ولا يشعرون بالأمان بعد، ويعتقدون أن تحقيق أرباح إضافية سيشعرهم بالأمان. يقول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور: "المال هو سعادة مُجرَّدة، وما يبحث عنه الناس في المال هو السعادة الملموسة. وبذلك، مهما امتلكوا أموالًا، فلن يشعروا بالسعادة".

اقتصاديًّا أيضًا، الأنظمة الاقتصادية مبنية على الإقراض. فعندما تُصنّع العملات، يجري توزيعها على شكل إقراض (دَيْن)، ودائمًا ما يرتبط القرض بالفوائد. من يقترض، فعليه التسديد مع فائدة. بمعنى آخر: الاقتصاد هو دَين أعلى من المال، يجد فيه الأفراد أنفسهم في سباق لا ينتهي، لأن نجاح أحدهم هو حتمًا خسارة لآخر أو آخرين. ولما كان المال قليلًا، فلا يعلم الناس ما القدر "الكافي" للشعور بالأمان، فيسعى الكثيرون/ات لتكديس الثروات. فمن يدري هل كان هذا المبلغ يكفي للسنوات الخمس أو العشر القادمة؟ ومن يدري هل يكون الأحفاد بخير وأمان مادي؟

المال مهم في الحياة، إنما عندما يصبح المقاسَ الوحيد أو الأساسي للنجاح، يصبح فهمُ الطمع، وانجذاب الكثيرين/ات إليه، أسهل. الطمع مُكتسَب من الطفولة والجماعة والنظام الاقتصادي، وليس سمة البشر. لذلك، إن أردنا الحدّ منه، فلا بد من إعادة التفكير في مفاهيم النجاح والاقتصاد والقيم القائمة، ثم خلق فلسفة جديدة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive