الرجوع

ما بعد كورونا

الإثنين

م ٢٠٢١/٠٥/١٠ |

هـ ١٤٤٢/٠٩/٢٩

تَنوَّع تَعاطي دول العالم مع وباء كورونا تَبعًا لسياسات مختلفة، إذِ اتَّسم بعضها بالاستنفار والتشدد ودق ناقوس الخطر، في حين صبغ التراخي وعدمُ الجدية نهْجَ دول أخرى كثيرة؛ ما ألحَقَ بها الأخطار والخسارات. ومع الاستبشار الذي عمَّ العالَمَ باللقاحات المكتشَفة، فإنَّ المؤشرات التي تزدحم بها التحليلات عن عالم ما بعد كورونا لا تبشر بخير قريب. سببُ ذلك أن سطوة الفيروس نفسه، ليست وحدها ما يقضُّ مضاجع البشر، بل إنَّ تداعيات الجائحة الاقتصادية -والتي ألقت بظلالها على الفئات الضعيفة في المجتمعات العربية عمومًا، وأثَّرت بشكل واسع في الطبقة الوسطى-، تركَت انعكاسات سلبية ملموسة، وخلَّفَت الملايين من العاطلين/ات من العمل، والخِرِّيجين/ات الجُدد بلا وظائف أو أمل في مستقبل كانوا يتُوقون إليه. 

إنَّ تَواضُع برامج بعض حكومات المنطقة العربية ومُواربتها، وقصورها عن احتواء تداعيات الجائحة على معيشة الناس، قد يكون ذلك بداية التغريب عن الطبيعة الإنسانية، وتوسيع النقمة الاجتماعية والنزاعات والسخط والكراهية، وتراجُع المنظومة الأخلاقية، وتعميق الحقد على المناصب. وقد يَفقد المواطنون/ات -خاصة الجَوعى والمُفْقَرين منهم- أخلاق الانتماء والمسؤولية، ليكونوا في مرحلة ما قنابل موقوتة، يمكن أن تطيح بكافة الثوابت لأجل لقمة العيش.

هذه العوامل مجتمِعة تَخلق أسبابًا موضوعية، لِهَيمنة بعض الجماعات الانتهازية والوصولية على تلك الفئة من العاطلين من العمل -وتحديدًا الشباب منهم-. وشقوق اليأس والعوز قد تكون مَنفذًا لتوظيفهم و/أو تجنيدهم، بما لديهم من قدرات وشهادات وخبرات لأغراض وأهداف معيَّنة، ربما تصل إلى أقصى درجات الشر، ومنها القتل والنهب والابتزاز والإسقاط، وربما تصفية حسابات، جارَّةً – أيْ الجماعات المذكورة آنفًا- خلفها المجتمعات، إلى دوامة مشبعة بكل معاني الفوضى والانفلات الأمني وزعزعة الاستقرار المجتمعي.

أيضًا قد تَفسح المجال لاندلاع الاحتجاجات والانتفاضات -ربما في سياق ما عُرِف بموجات "الربيع العربي"-؛ ما يغذي في الوقت الراهن انتشار الفيروس. وقد تمتطي -في سياقات جديدة- صهوة تداعيات الجائحة، مستفيدة بلا شك من التباينات الجغرافية والجندرية والدينية والعرقية لهؤلاء الشباب، لا سيما أن ملايين الشبان والشابات الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين في الدول العربية خلال السنوات العشر الفائتة، لم يتدفقوا من رحم أحزاب وتحالفات سياسية أو منظمات تقليدية. 

ثم إن انشغال الحكومات بكبح الجائحة، قد يشجع الحركات المتطرفة -على اختلاف مذاهبها ومدارسها- على تجديد حضورها في الساحات العربية والعالمية، لبلورة رؤاهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، تحت غطاء العمل الخيري والإغاثي. 

خلاصة القول: ليست هي المرة الأولى التي يتعرض فيها العالم لجائحة، ولن تكون الأخيرة بحسب الخبراء. ومهما تزايدت التكهنات بانهيار النظام العالمي وتَخلخُل الرأسمالية مِن جرَّاء جائحة كورونا التي شلت الحركة في جميع الميادين، ومهما كانت دقة التحليلات، فإنَّ تداعيات الجائحة مرشَّحة للتمدد، بسبب ضعف أداء الحكومات من ناحية، وبسبب اتساع فجوة الثقة بينها وبين الشعوب وممثليهم من ناحية أخرى. ولا يحتاج الناس إلى كبير عناء للتحقق من أننا أمام مرحلة جديدة، ما زال ينبغي لنا استكشاف ملامحها، وعلى الجميع التيقن فيها بأن الحياة بعد كورونا لم تعد ولن تكون كما كانت قبلها.

مع قسوة أيام الجائحة، والتي أنشبَت أظفارها في أجساد الناس، فإنَّ أحدًا لن يكون في صدد انتظار معجزة. فالطريق إلى الخلاص مِثل التجربة، ولن يكون سهلًا على الإطلاق. لكن مع ذلك، ثمة أمل للجميع في ميدان الحياة، إذا ما حشدت الدولُ طاقاتها أوَّلًا لتوزيع عادل لِلَّقاحات، بعيدًا عن الحسابات التي لا تستقيم مع الكوارث، ومِن ثَمَّ الإقرار بالحاجة الماسة إلى اجتراح حلول مختلفة للخروج من نفق الجائحة المظلم. فتعبيد طرق الإصلاح سياسيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وتوسيع المشاركة، وقبول التنوع، وترميم فاعلية البرامج الاقتصادية المتصدعة، ومحاربة الفساد، والوعي بحقيقة المساواة الإنسانية، وتوظيف الموارد البشرية في أماكنها السليمة – كلُّ ذلك لكي لا تتحول تلك الأخيرة إلى بيادق جيوسياسية، أو وكيل لأجندات سياسية خبيثة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive