الرجوع

هل الفيروس ديمقراطي؟

الإثنين

م ٢٠٢٠/٠٤/٢٠ |

هـ ١٤٤١/٠٨/٢٧

كتَب أحدهم متهكِّمًا: "لم يبْقَ لنا إلَّا أنْ نُعوِّل على "وَعْي" الفيروس". بِغضِّ النظر عن هذه السُّخريَّة السوداء، كثيرًا ما يجري الحديث في فيروس كورونا وكأنَّه إنسان. فمِن طبيعة التفكير واللغة البَشرِيَّين، إضفاء طابع شخصانيّ على الأشياء. ولكن، ما لفَت انتباهي هو إطلاق وصف "ديمقراطي" على الفيروس، لأنه اجتاح جميع البلدان، وأصاب جميع الشعوب، مِن دون تمييز بين لون ودين وثقافة، أو بين غنيٍّ وفقير، وكأنَّ هناك نوعًا من "العدالة" أو "المساواة"، تَطبع سلوك الفيروس في رحلته العابرة إلى القارَّات.

أخيرًا، بات البشَر متساوين في ضعفهم وهشاشتهم؛ إذ الكُلّ مُحَجَّر عليهم في بيوتهم، ينتظرون الفرَج. هذا التحليل يعبِّر عن رغبتنا في إيجاد القشَّة الإيجابية، في بحر الدِّراما الإنسانية التي تُحيط بنا. وكثيرًا ما نُردِّد هذه الأيام عبارة: "كُنْ إيجابيًّا"، محاولين أنْ نستمدَّ طاقة إيجابية، وأنْ نَنشرها فيمَن حَوْلنا، أو -كما يقال- أنْ نَنظر إلى النصف الملآن من الكأس. وهذا أمر مفهوم في مثل هذه الظروف.

نعُود إلى سؤالنا الأول: "هل الفيروس فِعلًا ديمقراطيٌّ وعادل؟". لو تأمّلْنا جيِّدًا الوضع العالميّ، لوجَدْنا أنَّ شيئًا من "الديمقراطية" متحقِّق جزئيًّا ونسبيًّا، ولكنَّ الواقع يُظهر بشكل واضح الفُروقات والتفاوتات أكثر من أيِّ شيء آخر، بل هي أبرَزُ سِمَة في المَشهد. فإنْ كان النظام العالميُّ مَبنيًّا على العنف والظلم والقوة، فإنَّ الأزمات تُبْرز أكثَرَ الوجهَ البَشِع لعالَمنا، بكلِّ نقاط ضُعفه وعُقَده. ونحن نستخدم الكلمات نفسها لوصف حقائق متضاربة. فمثلًا: الحَجْر واحد، ولكنَّ تَمثُّلاته متناقضة، إذْ مَن يعيش الحَجْر في بيت واسع مع حديقة ومَسْبح، ليس كمَن يعيشه في غرفة ضيِّقة مكتَظَّة بِمَن فيها، أو كمَن يعيشه في مخيَّمات اللجوء في أرض غريبة، أو بيْن أُناس يتَّهمونه بأنه مَصدر الوباء.

الفارق واضح بين الحَجْر الذي تَعِيشه أسرة سعيدة، حيث يكُون فرصة لتعزيز أواصر المحبة، والحَجْر الذي يُجْبِر أسرة متصارعة على العيش تحت سقف واحد مدَّة طويلة، ما يولّد العصبية والعنف، حيث تكُون الضحايا غالبًا من النساء والأطفال.

شَتّان بين مَن لديه حساب في البنك يكفيه سنواتٍ قادمة، والعاملِ الفقير الذي -إنْ لم يَخرج لكسب قُوته اليومي- لا يجد لُقمته ولقمة صغاره. والفارق واضح بين مَن يدرس أو يعمل عن بُعْد، وهو يتمتع بشبكة إنترنت سريعة، ومَن لديه شبكة سُلَحْفاتيّة، أو ليس لديه إنترنت على الإطلاق، أو ليس لديه حاسوب. الاختلاف بَيِّنٌ بيْن مَن يعيش في بلد يتمتع بمنظومة صحِّيّة راقية وفعّالة، ومَن يعيش في بلد أو منطقة فقيرة، منظومتها الصحية متهالكة أو معدومة أو بعيدة مئات الكيلومترات، أو مَن يعيش تحت القصف والحروب. الحَجْر واحد، ولكنه مختلف تمامًا بين مَن يعيشه في دولة دكتاتورية، تتكتَّم على المعلومات والأرقام وتُخفي حقيقة المأساة عن مواطنيها، ودولة ديمقراطية تتميَّز بالمصارحة والشفافية. في الحالة الأولى، العلاقات بين المُواطن والدولة الدِّكتاتورية مَبنيَّة على الشَّكِّ والخوف، وفي الثانية العلاقات مَبنيَّة على الثقة والتعاون.

يتّضح من خلال الأمثلة المذكورة، أنَّ الفيروس ليس ديمقراطيًّا ولا عادلًا، مِثلنا تمامًا! لا أتحدّث هنا بِبُلدان معيَّنة فحسْب، بل بالنظام العالميِّ كَكُلّ. فالفيروس كاشفُ عورات بامتياز. وفي دولة عريقة في ديمقراطيتها كالولايات المتحدة الأميركية، نرى أنَّ عدد الوَفَيَات هو الأعلى في العالم، هذا إنْ صدّقْنا الأرقام الصِّينية، وهي على الأرجح كاذبة، ولعلَّها الأعلى فِعلًا. أمَّا مدينة شيكاغو، التي يُشكِّل فيها ذوو الأصول الأفريقيّة 30% من سكَّانها، فإنهم يشكِّلون أكثر من 70% من الضحايا. السبب واضح وهو الفقر، إذ الفقراء يعانون ويموتون أكثر من الأغنياء، بسبب الفيروس "الديمقراطي".

الديمقراطية الحقيقية والكاملة، مَشروع تسعى إليه الإنسانية ببطء. وقد تَحقَّق بأشكال متفاوتة ونسبية في بعض البلدان، ويَشهد تراجُعًا في بلدان أخرى بسبب أنظمة اقتصادية لاإنسانية. لكنَّ الديمقراطية تَبقى أحد "اللَّقَاحات" الأساسية ضد الأوبئة، لأنها توفِّر الأرضية لشبكة علاقات اجتماعية صُلبة وصحِّيّة؛ ما يسمح بالتضامن والتكافل عند حلول الأزمات.

أيضًا الديمقراطية الحقيقية تَمنع الفساد، وتوفِّر الموارد لتوظيفها فيما يَخدم الشعب حقًّا، وعلى رأسها الخدمات الصحية. أمَّا المجتمعات التي تعاني الديكتاتورية، فهي مريضة قبل الفيروس وبدونه. ثمّ إنَّ هناك أنظمة ديكتاتورية، أو منسلخة من الديمقراطية، تسعى لاستغلال الأزمة، لتشديد الرَّقابة وتركيز السلطة في يد الرَّجُل "القوي"، أو الذي لا يزال يتصوّر أنه كذلك، وكأنَّ الفيروس "حليف" للدكتاتوريات القديمة والناشئة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive