الرجوع

التضامن في زمن الخوف

الخميس

م ٢٠٢٠/٠٤/١٦ |

هـ ١٤٤١/٠٨/٢٣

أعتَرِف بأنني لم أشعر بالخوف كما شعرتُ به في الأسبوع الأول، الذي بدأتْ فيه أخبار الفيروس الشهير، تُصبح هي أهَمَّ الأخبار في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. إنَّه خوفٌ على الأحبَّة المنتشرين/ات في بقاع الأرض، وخوف على الوالدين والزوج والأبناء والإخوة والأخوات، وخوف على الذات من المرض، وخوفٌ مِن أن يصبح المرء ناقلًا له، فيُصيب به حبيبًا أو قريبًا.

الخوف أسوَأُ المشاعر على الإطلاق. الخوف لا يُلهم ولا يُحفِّز. الخوف يُشلُّ الحركة والتفكير. هذا ما استخلصْتُه من تجربتي مع الخوف -وقد يختلف الأمر مع غيري-. وكنتُ في كلِّ لحظة أجلِسُ مع خوفي وجْهًا لوجه، وأَستذكِر أولئك الذين يعايشون الخوف منذ سنوات، ولا يعرفون هل كانوا يَعيشون لِيَرَوا شمس صباح اليوم التالي! وأَستذكِر أولئك المنكوبين/ت بالحروب، والمَنسيِّين/ات من العالم، الذين ليسوا تحت رحمة الخوف فقط، بل تكالبَت عليهم كلُّ المخاوف؛ إذِ الخوف من الموت يصاحبه الخوف من الحياة، مع الجوع والعطش والمرض والبرد والتَّشرُّد.

اليوم، وأنا أجلس في بيتي أُتابِع أخبار الفيروس، الذي غزا العالَم بلا رحمة، فقَتل مَن قَتل وشَلَّ الحياة، وأجْبَر الناس على البقاء في بيوتها؛ أُفكِّر في المُحاصَرين/ات والمسجونين/ات ظُلمًا، والمُروَّعين/ات والخائفين/ات، وأُفكِّر في الأرملة أو المهجورة التي تُركَت في مواجهة الحياة وَحْدها، كيف تنام وهي التي لا تَعرف هل تستطيع تأمين حاجة أبنائها من الطعام في الغد، وما الذي تَفعله المسكينة إنْ مَرِض أحدُهم وهي لا تَملك ثمن الدواء! إنَّ فقدان الحيلة أو قَبُول الاستسلام الذي تَشعُر به هذه السيدة، هو ذاته ما نَشعُر به في هذه الليالي الحالكة، ونحن ندعو الله أن يأتي الغد من دون أن نَفقد فيه حبيبًا.

لقد كُنَّا نتأثر كلَّما سمِعْنا قصص الخوف التي عاشها الآخرون، مِثل: قصص اللاجئين/ات، والمشرَّدين/ات مِن جَرَّاء القصف، والخائفين/ات والمَرعوبين/ات. لكن، في كثير من الأحيان كان تأثُّرنا لَحْظيًّا، ينتهي بانتهاء سماعنا بالقصة أو قراءتنا للخبر، وقد يمتدُّ ساعاتٍ أحيانًا، ثم ينتهي مع أوَّل انشغال لنا، لِنَعُود ونُمارس حياتنا كالسابق. أمَّا أولئك الخائفون/ات الذين يُعوِّلون علينا لمساعدتهم، فيَغرقون في وُحول الرُّعب وَحْدهم.

اليوم عرَفْنا ما الخوف. إنَّه مارِدٌ لا يقْوَى على مجابهته فردٌ وَحْده. اليوم أحسَسْنا بأهمية التضامن الحقيقي، الذي يتجاوز التَّأثُّرَ والدعاء والأمنيَّات، إلى مدِّ يد العون بكلِّ ما يَملك الإنسان من قدرة.

التضامن هو الوسيلة الوحيدة، إلى الخروج بالإنسانية منتصرةً في هذه المعركة. هو تَضامُن على مستوى العائلة والحيِّ والوطن والأوطان المُجاوِرة. وكلُّ معلومة مُفِيدة قد تُنقذ فردًا، وكلُّ صاحب مالٍ قد يُنقذ عائلة. وأعلى درجات التضامن هو عزْلُ النفس عن الآخرين، وحمايةٌ للآخرين وللنفس. إنَّ التضحية بالحرِّيّة ليست سهلة، ولكنها اليوم مَطلبٌ أساسيّ من مَطالب التضامن، ومَطلب قد يُنقذ جسمًا حسَّاسًا من المرض أو الموت.

أنت تُساعد جارَك المُسنَّ وتضع له احتياجاته أمام الباب، لكي يتجنب الخروج والعَدْوى، فيَكفل لك الله -مَثلًا- مَن يهتمُّ بِابْنك في الغُربة الصعبة. وهذا الذي يهتمُّ بِابْنك، يطمئنُّ بِدَوره إلى والدته في بلد آخر، وهي مُحاطة بجيران يؤمِّنون لها احتياجاتها. هذا هو التضامن، وهو كسِلسلة متَّصلة. أنت تهتمُّ بغيرك، وغيْرُك يهتمُّ بك. فتَعُمُّ الطمأنينة مَحلَّ الخوف، وتستمرُّ الإنسانية في معركتها حتى تَخرج بفضل الله منتصِرة.

ستنتهي الأزمة بإذن الله، وندعو الله أن نخرج منها سالمين/ات، لا فاقدين/ات ولا مفقودين/ات، وأن نَخرج منها وقد تعلَّمْنا أنَّ الأرض لها علينا حقُّ الرعاية، والبيئة لها علينا حقُّ الاهتمام. فلْنَدْعُ الله أنْ نَخرج منها ونحن مقتنعون/ات، بأنَّ الإنسانية هي المِظلَّة التي يجب أن تَجمعنا، وبأنَّ هَمَّ الإنسان في أيِّ بلدٍ ما يَعنينا أيضًا، وبأنَّ الفقير الذي يَقطُن بالحيِّ المُجاوِر هو مسؤوليَّتُنا -إنْ كنَّا قادرين/ات-، وبأنَّ أولاد الأرملة أولادُنا جميعًا، وبأنَّ الناس على اختلاف دياناتهم وأفكارهم إخوةٌ وأخوات، وبأنَّ ما يَجمعنا أكثرُ مِمّا يُفرِّقنا. فَلْتَسكُت الألسنة الكارهة، ولْتَرتفع أصوات المحبة والإخاء والسلام.

أمَّا الآن، فالتضامن هو سبيلنا. فيجب أن يَبقى بعضُنا مع بعض، عن بُعْد.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive