الرجوع

في الترويج لقتل تارك الصلاة

الخميس

م ٢٠٢٣/٠٥/١١ |

هـ ١٤٤٤/١٠/٢١

في أحد برامج الفتاوى الشهيرة على منصة من أكثر المنصات العربية مشاهَدة، سأل المذيع الشيخ عن حكم تارك الصلاة، فأجاب الشيخ أن "تارك الصلاة حكمه عند الإمام أبي حنيفة النعمان هو السجن مدى الحياة، أما غير الإمام أبو حنيفة -وهنا لم يوضح الشيخ من هؤلاء الذين أفتوا بذلك- فأوضحوا بأن تارك الصلاة يُقتل. فإذا كان تارك الصلاة جاحدًا فهو يُقتل وهو كافر، وإن كان متكاسلا يُقتل وهو مسلم". قام المذيع بإعادة السؤال مستغربًا: "في الحالتين يُقتل؟ سواءٌ أنكر الصلاة أم لم ينكرها؟"! فأجابه الشيخ بنعم، مع تأكيده أن القتل الأول مختلف عن الثاني؛ إذ الذي أنكر يُقتل كفرًا لا حدًّا، ولا يُصلى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين، أما المتكاسل فيُقتل حدًّا لا كفرًا، ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.

لم تكتف المنصة الشهيرة بنشر الحلقة كاملة على اليوتيوب، بل قامت باقتطاع هذا الجزء بالذات ونشره في تغريدة منفصلة، ليتلقفها الناس بكل استنكار وشجب. أسئلة كثيرة خطرت ببالي عند مشاهدة التغريدة، فهذه دعوة صريحة إلى القتل تُنشر عبر منصة إعلامية، بدون أي تفكير في العواقب المترتبة عليها، وذلك بعد سنوات من أعمال الفوضى والقتل والتشريد، التي كان أحد أسبابها -إضافة إلى الاستبداد- فقدان حرية المعتقد، ورفض الآخر.

لكنْ هذه المرة، لم تتَّجه ردود الأفعال باتجاه تأييد هذا الخطاب المتشدد العنيف. فأغلب المغردين/ات أجمعوا على أن التغريدة تحريضية، وأوضح أحدهم أن هذا النوع من رجال الدين المتشددين يأخذ بالأحكام التي تعتمد على النقل بعيدًا عن العقل، ويجعل هذه الآراء الفقهية مقدمة على ما جاء في القرآن الكريم. مغرد آخر استغرب أن يكون الحديث عن القتل بهذه البساطة، وآخر أوضح أنه لا يوجد قول لشيخ أو صحابي بعد قول الله: {لا إكراه في الدين}.

آراء بمجملها أكدت أن زمن التلقين ولّى، وأن الناس اليوم أكثر وعيًا مما مضى، بل إن الوعي هذه المرة تجاوز الهجوم على التغريدة إلى العمل على مسحها تمامًا. فدعا المغردون/ات إلى التبليغ عن التغريدة لأنها تحرض على القتل والعنف؛ ما أدى إلى حذف التغريدة من قبل مسؤولي القناة في اليوم التالي. كان تَصرُّفًا مسؤولًا من قبل المغردين، نَمَّ على وعي ومعرفة لخطورة هذا الخطاب، الذي كان سببًا في نشر الإرهاب وقتل الآلاف من الأبرياء بسبب المعتقد.

حملْتُ سؤال "حكم تارك الصلاة"، ووجَّهتُه إلى الدكتور عامر الحافي (أستاذ الأديان المقارنة في جامعة آل البيت في الأردن)، فأجابني أنه: {لا إكراه في الدين}، وأن الحساب على التقصير في الأوامر الدينية لله وحده. أيضًا أكد الدكتور أن مقابلة التقصير في الأوامر الدينية بالقتل لا ينسجم مع دين يقوم على الرحمة بالعالمين، وأن موضوع قتل تارك الصلاة يتصل بموضوع التكفير على الذنوب والكبائر، وهذا ما دخل على المسلمين منذ ظهور الخوارج. أما الاحتجاج بمقاتلة "أبي بكر" للمرتدين الذين لم يؤدوا الزكاة، فقد كان ذلك لخروجهم عن النظام العام ومخالفتهم لقوانين الدولة.

كان هذا خطابًا دينيًّا من نوع آخر، يحترم العقل والمنطق وحقوق الإنسان والحريات، وينسجم مع تكريم الله للإنسان ومبادئ الرحمة والعدالة التي دعت إليها الأديان. فلماذا أصرَّت القناة على الإتيان بخطاب متشدد يصل إلى درجة الدعوة إلى قتل النفس التي حرم الله؟ ولماذا ابتعدَت عن الخطاب المعتدل لمصلحة خطابٍ موغل في التشدد، وبعيدٍ عن أخلاقيات الإعلام التي تنص على احترام القوانين والمصلحة العامة؟ 

من المفترض أن تكون الصحافة وصية على الحقوق والحريات، وأستغرب أن تقوم منصات تدعو إلى تحرر الشعوب من الاستبداد، بنشر مبادئ تخلق استبدادًا من نوع آخر، أي استبدادًا دينيًّا يتدخل في العلاقة بين الإنسان وخالقه، وأنْ تخالف واحدًا من أهم ركائز الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو حرية المعتقد، فتخلق مجتمعًا منافقًا يفتقر إلى فضيلة الصدق التي تُبنى عليها المجتمعات المتحضرة، خصوصًا وأن الخطاب الديني المعتدل الذي ينسجم مع مبادئ حقوق الإنسان موجود ومقنع، ويتطابق مع القوانين التي تجرم القتل وتُحقق المصلحة العامة!

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive