الرجوع

غزة نقطة التحول والتغيير

الإثنين

م ٢٠٢٣/١١/٢٧ |

هـ ١٤٤٥/٠٥/١٥

في حياتنا أحداث مصيرية كثيرًا ما كانت تبدأ بصدمةٍ يصعب استيعابها، صدمةٍ تجعلنا نقف أمام أنفسنا، ونواجه أفكارنا التي تبنيناها عن اقتناع، صدمةٍ تُسقط الكثير ممن ظنَنَّاهم قدوات، وترفع مقام آخرين لم ننصفهم في معاركنا اليومية السابقة. 

قَصْف غزة ومحاولة التطهير العرقي التي تحصل أمام العالم كانت واحدة من هذه الأحداث، وصدمةً كانت في حاجة إلى فترة صمت، امتنعت فيها أنا وغيري من كتابة المقالات، حيث كنتُ في حاجة إلى الجلوس مع نفسي أكثر، وإلى فهم ما طرأ على عقلي من متغيرات مهمة في مرحلة تاريخية لا تنسى، يبدو أنها ستُغير ملامح المنطقة في المستقبل. هو امتحان قاسٍ، فشل فيه الكثير من السياسيين الذين طالما تغنوا بمبادئ حقوق الإنسان، ليتضح للعالم ازدواجيتهم المقيتة. فهذه الحقوق ليست لكل "إنسان" بحسب ما اتضح لنا؛ وتصنيف البشر إلى أرواح مهمة وأخرى غير مهمة أصبح واضحًا لكل من يرى ويسمع خطبهم الجوفاء. 

"أنا بعد معركة غزة لا أشبه نفسي قبلها"، كتبتُ هذه التغريدة -التي حظيت بتفاعل كبير- لأناس شاركوني في هذا الإحساس. لقد تَغيَّرنا، وأكبر تغيير يمكن أن أشعر به الآن هو رغبتي في دور أكبر في معركة الوعي العالمية، التي بدأت على وسائل التواصل منذ الأيام الأولى للحرب، وكان لها فضل كبير في الحشد والتأثير، لكي نغير السياسات المتحيزة ولو على استحياء. 

كان الأمر في البداية مرعبًا، كنا نراقب السياسيين وهم يعلنون قرار الإعدام لغزة وأهلها. فجأة اتضح أن القرار في العالم في يد فئة قليلة لطالما سيطرت على العقول بالمال والإعلام. الإعلام الذي فقد مصداقيته أمامنا، وتهاوى كحجارة الدومينو، لم يكن ليجد رادعًا قبل سنوات. كان هو الصوت الوحيد الذي يستقي العالم منه الأخبار، ليكتشف بعد سنوات أن أغلب الحروب التي قادها هؤلاء بُنيت على كذب ومؤامرات ومصالح شخصية، وقد تكون حقائق غالبًا ما تظهر بعد فوات الأوان. إلا أن المعادلة اليوم اختلفت، فالمنصات الإعلامية التقليدية لم تعد الأبواق الوحيدة التي توجه العالم، وتَراجَع تأثيرها عندما أثبتت الأخبار المتناقلة عبر وسائل التواصل كذبها بالدلائل والبراهين، لتبدأ مرحلة الوعي العالمي، التي يجب أن يكون لكل منا يد وصوت فيها. 

لقد أحرجَت وسائلُ التواصل الإعلامَ التقليدي، وأجبرته على تغيير روايته، مدعومة بالحشد على الأرض. ملايين خرجوا إلى الشوارع وأجبروا كل من لا يهتم بما يحصل في غزة على القراءة والاطلاع. والنتيجة ظهور ملايين يتبنون عدالة القضية الفلسطينية اليوم، ملايين لم يكونوا يعرفون شيئًا عنها قبل شهور. 

تساءلتُ قبل أيام ما الذي يدفع مواطنين أجانب لا يربطهم بغزة شيءٌ، إلى أن يتبنوا هذه القضية المكلفة! بعضهم يُحاربون في أرزاقهم ويتعرضون للتهديد، ولكنهم يستمرون بكل شجاعة في فضح الاحتلال ومن يعاونه في العالم. والجواب هو "المعرفة"، والمعرفة مسؤولية. فلا تستطيع أن تعرف الحقيقة وتتظاهر بأنك لا تعرفها؛ إذ ستفقد احترامك لنفسك إن فعلت. ثم إنّ المواطن الأجنبي يدافع عن مبادئ حقوق الإنسان التي تَربى عليها، ويدافع عن حقه في التعبير. هو مصدوم أيضًا من تهاوي المفاهيم التي آمن بها، ويخاف أن يفقدها، فالمعركة اليوم معركته أيضًا. 

إنَّ تبنِّي قضية عادلة يعطي الحياة قيمة، ويحرر الإنسان من الخواء والسطحية. وهذا ما يبرر تهافت المؤثرين -الذين طالما وصفوا بالسخافة- على القراءة والاطلاع وإنتاج الفيديوهات. هذه معركة وعي عالمية، يجب أن تستمر حتى بعد أن تتوقف الحرب. فالظالم أو المتحكم الذي يرسم السياسات معروفٌ اليوم، فهو يمثل فئة لا تتوانى في خلق النزاعات والفتن، لكي تُحقق مصالحها وينتشر نفوذها.

اليوم، يجب أن يصبح كل الأحرار في العالم جنودًا في معركة الوعي. لا يوجد قضية لا تهمنا، وما يجري في سوريا والسودان والكونغو اليوم خطير أيضًا. علينا أن نعرف المزيد، لأن الجهل نقمة يدفع كل إنسان ثمنها عندما يحين دوره. أما معاركنا التنويرية الداخلية، فهي مستمرة، وهي جزء من معركة الوعي التي لا يريد أعداء المساواة بين البشر أن نتحلى به. فهم يريدوننا دائمًا في تراجع فكري واجتماعي، وهذا ما يجب أن نرفضه ونسعى لتغييره. 

علينا أن ننشغل بإعمار أنفسنا. نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع، وندعم مشاريعنا لنحقق الاستقلال الذاتي، ونستثمر في التعليم والبناء والفكر، وأن يكون اهتمامنا بقيمة الإنسان لدينا أكثر. علينا أن نكون ندًّا حضاريًّا بفكرنا وإنجازاتنا..

 نعم، غزة غيّرَتنا. ولكن تغييرنا كان إلى الأفضل.

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive