الرجوع

التعليم: صناعة الرخاء أم تعزيز المخاوف؟!

الأربعاء

م ٢٠١٨/٠٦/٢٠ |

هـ ١٤٣٩/١٠/٠٧

إن التقييم الموضوعي لوضع المنطقة العربية يصل إلى نتيجة مهمة، وهي أن الخوف هو الذي يسيطر على أذهان الجميع ومنهم الشباب، تلك الفئة الكبيرة التي تُواجه كل تداعيات هذا الإخفاق، في الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية. هذا الخوف له تداعيات كثيرة على المستقبل؛ إذْ يُؤْثَر عن ابن رشد قوله إن: "الجهل يؤدي إلى الخوف، والخوف يؤدي إلى الكره، والكره يؤدي إلى العنف". هذه المعادلة التي يضعنا هذا المفكِّرُ أمامها، نجدها شاخصة تحرِّك ما يَجري من خراب في منطقتنا العربية.

الجهل يُطِلُّ من كثير من الأماكن، ومنها مؤسسات التعليم والتنوير المسؤولة عن تسليح الشباب بالأدوات المناسبة للقضاء عليه، ومِن ثَمَّ تجنيب مجتمعاتنا تَرِكَتَه الثقيلة جدًّا، والتي تقود إلى تعزيز الكراهيات العميقة بين فئات المجتمع، وإلى تأجيج العنف وجعلِه وسيلة لحل الإشكاليات التي تنشأ لأسباب مختلفة. وأيضًا العنف ينتشر ويتمدد، في حين ينحسر الحوار وتَضيق مساحته؛ ما يضع مؤسسات التعليم أمام مسؤولية كبيرة في الوقت الحالي، وهي جعلُ التعليم وسيلة لتبديد الخوف، وتحقيق الرخاء. لكن، كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟

لا بد من إعادة التفكير في ما نقوم بتدريسه للطلبة في مختلف المدارس والجامعات، لأن العالم يتغير من حولنا ويتبدل بسرعة كبيرة. وينبغي مساعدة الطلبة على أن يتعلموا مبادئ التعلم ومهاراته، التي تُتيح لهم أن ينظروا إلى الحياة من الزاوية التي يرون فيها الأمل، الذي يبثُّ في داخلهم الدافعية إلى المُضيِّ في إعادة بناء ما هو مهدَّم من حولهم. هم يحتاجون إلى أن يعرفوا مواهبهم وكيف يعملون على تنميتها وتطويرها، ويحتاجون إلى أن يتعلموا كيف يكونون أصحاب عقليات نقدية، قادرة على بناء المعرفة وإعادة توظيفها في مواقف جديدة. كل ذلك يجعل حياتهم وحياة مجتمعاتهم قابلة لتحقيق الرخاء، الذي ينطلق من تبديدِ الخوف والجهل وما يقودان إليه، وتحويلِ دور الفرد من دور المدمِّر إلى دور البَنَّاء؛ فيَتخرَّج في هذه المؤسسات التعليمة بنَّاؤُو المجتمعات ومهندسُو نهضتها، ومحرِّكُو أحلامها وطموحاتها، بدلًا من أن يتخرَّج فيها أولئك الذين يبثُّون الخوف، والكره، والعنف؛ ما يُفقد مجتمعاتهم السلامَ والانسجامَ الاجتماعي، الضروريَّيْن لتحقيق الرخاء وتَهيِئَة الأرض للبناء والإبداع والابتكار.

فهل يمكن أن تُحْدِث مؤسساتُنا التعليمية العربية هذا التحول البنيوي في أهدافها، لتحقيق أفضل استثمار للمورد البشري، وحمايته من الهدر المحتمل الذي تتزايد فرصه، في ظل غياب إعادة تفكير جادَّة فيما يُعلَّم الآن؟

إن ما يحرك التفكير في هذا الأمر، هو طبيعة المستقبل وعلاقته بتطور المعرفة. فكما يؤكد الكاتب الأمريكي (توماس فريدمان)، أن المستقبل لا يمكن تحديده بما نعرف، إنما يتحدد بكيفية توظيف المعرفة التي نملكها؛ ما يعني أن التركيز على تلقين المعرفة ومراكمتها في أذهان الطلبة، ليست الطريقة المناسبة للتعلم، في مجتمعات تتطلع إلى تحقيق الرخاء الفردي والمجتمعي، لأنها لا تقود إلى معرفة الأساليب التي تساعد على الاستفادة من هذه المعرفة، في الاستفادة مما وصل إليه العالم من حولنا من تطبيقات علمية في مختلف القطاعات، جعلَتْه يتقدم إلى مسافات أبعد منا، قَلَّ معها الخوف وزاد الوعي، وقلّت معها الكراهية وزاد التعاطف الإنساني، وقلَّ معها العنف وزاد اللجوء إلى القانون والاحتكام إليه، وقلَّ معها التعصب وزاد تقبُّل الرأي واحترام قائله، وقلَّ معها اليأس وزاد التفاؤُل بالغد، وقلَّ معها الشعور بعدم الانتماء وزاد الشعور بالانتماء والاستقرار. إنه المستقبل الآمن الذي صنعه التعليم، ونحن نبحث عن تعليم آمن يصنع مستقبلًا آمنًا، لا نريد تعليمًا يجعل حالة الخوف مشروعًا مستمرًّا.

لا شك أن التعليم الذي نحلم به قد تأخَّر كثيرًا جدًّا، وكان أحد العوامل التي قادت إلى انحسار حالة الرخاء عن المنطقة. ولكن، لا بد أن نؤمن اليوم ونحن نتطلع إلى واقعنا، وإلى أمم العالم من حولنا، بأن العلم هو أفضل طريق للخروج من النفق المظلم، وأن العلم هو أفضل سلاح لوقف هذا الجنون الذي نشهده، آخذين بنصيحة الإمام أبو حامد الغزالي حيث قال: "العِلم بلا عمل جنون، والعمل بغير علم لا يكون". لذا، لا بد أن تسعى مؤسسات التعليم لجعل التعليم وظيفيًّا، له أثر في تحويل حياة الفرد والمجتمعات، وجعلِه قيمة لا بد من تَوافرها في أي عمل، لأن المجتمعات المتعلمة أكثر قدرة على تحقيق التنمية والاستقرار، وأكثر قدرة على معرفة العالم، وأكثر قدرة على تبديد الخوف، وأكثر قدرة على صناعة المستقبل.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive