الرجوع

تعليم الترويض وتحويل الإنسان إلى كائن مُطيع

الأربعاء

م ٢٠١٨/٠٧/٢٥ |

هـ ١٤٣٩/١١/١٣

ما الهدف الأساسي للتعليم؟ هل يعمل على مساعدة الطالب على تحرير نفسه من القيود، التي تُحدِّد له سلَفًا أفكارَه واتِّجاهاته، تجاه ما يواجه من قضايا حياتية؛ أم يعمل على ترويض الإنسان، ليَتقبَّل أفكارًا وحقائق ومواقف غير قابلة للنقاش؟ إن الذي يميِّز الإنسان عن بقية هذه الكائنات، هو استخدام العقل والتفكير، والتشكيك والتمييز بين المعقول واللامعقول، وبين الحقائق والادِّعاءات، وبين المنطقي واللامنطقي.

لذا، فمهمَّة التعليم تَتباين تبَعًا للهدف المراد تحقيقه. فهناك مجتمعات يركِّز تعليمها على مخاطبة العقول بالحوار والنقاش، وُصُولًا إلى بناء القناعات. وهناك أنظمة تعليمية تركِّز على ترويض عقول المتعلِّمين، من خلال تلقينهم ما يُعتقَد أنه صحيح، من وجهة نظر الجهة المُشْرفة على التعليم؛ ما يَنتج منه إضعافُ قُدرات الطلبة على التمييز بين الحقائق والادِّعاءات. ويزداد تأثير هذا فيهم، عندما يواجهون العالم الخارجي بقضاياه المعقَّدة، التي تؤثِّر فيهم ولا يستطيعون فهمَها كما يجب، من أجل تقليل تأثيرها في حياتهم.

إنّ هناك تشابُهًا كبيرًا بين ما يَحدث في بعض المدارس، وما يحدث في مهنة الترويض، مع اختلاف الهدف في كِلتَا الحالتَين. فالهدف في الحالة الأولى هو الإنسان، في حين الهدفُ في الحالة الثانية هو الحيوان. لكن الغاية تَظلُّ واحدة، وهي ضمان طاعةِ المستهدَف وخضوعِه في كِلْتَا العمليَّتَين، لِلَّذي يقوم بعملية الترويض. وهذه المقاربة يمكن أن تتَّضح لنا بشكل أفضل، من خلال القصة التي كتبها زكريّا تامر، وكان عنوانها "النمور في اليوم العاشر"، والتي كان مِحورُها أستاذًا يعمل على تعليم تلاميذه كيفية الترويض، وكيف ينجحون في جعلِ حيوانات شرسة مثل الأسود والنمور، كائناتٍ طيِّعةً، تستجيب لأوامر المروِّض دون أدنى نقاش.

تبدأ هذه القصة بالمروِّض، الذي يوجِّه الحديث إلى تلاميذه، وهم ينظرون إلى النمر السجين في قفص، والذي يحدِّق فيهم بغضب شديد، حيث قال لهم المروِّض: "إذا أردتُم حقًّا أن تتعلَّموا مهنتي، مهنة الترويض، فعليكم ألَّا تَنسَوا في أيِّ لحظة أنّ معِدَة خصمِكم هدفُكم الأول، وسترَون أنها مِهنة صعبة وسهلة في آن واحد. انظُروا الآن إلى هذا النمر، إنه نمر شرس متعجرف شديد الفخر بحريته، وقوّته، وبطشه، ولكنه سيتغير ويصبح وديعًا ولطيفًا ومطيعًا كطفل صغير. فراقِبوا ما سيجري بين مَن يملك الطعام وبين من لا يملكه، وتعلَّموا".

يمضي الحوار والتحدِّي بين المروِّض والنمر، وتَبرز من ذلك تساؤلات على قدْرٍ كبير من الأهمية، تُوضح كيف يمكن توظيفُ الأدوات والطرق لِسلب الإرادة، سواءٌ من الحيوان أو الإنسان. لِنتأمَّل إجابة المروِّض للنمر حين يطلب الطعام منه، فيردُّ عليه: "أتأمُرُني وأنت سجيني؟"، فيردُّ النمر: "لا أحد يأمر النمور". فيُجيبه بمنطق مَن يريد أن يؤكِّد طبيعة العلاقة، بقوله: "أما وقد صِرتَ في القفص، فأنت الآن مجرَّد عبدٍ تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء"، لأنني "أنا الذي أملك الطعام". وهذا ما قد يَحدث للطالب في المدرسة، حيث يُلوَّح له بالدرجات التي يمكن أن تُصادَر منه، إنْ عارض المعلم أو ناقشه في أي نقطة من نقاط الدرس، أو رفَض أن يمتثل أوامره.

فأيُّ تعليمٍ هذا، الذي ينتهي بتعليم جيل التصفيق على أشياء غير مفهومة؟ وأيُّ تعليمٍ هذا، الذي يقود إلى انتزاع اعترافٍ بتفوُّق المُروِّض وذكائه، وبجهل المروَّض؟ كيف لمِثل هذا التعليم أن يقود إلى إعداد مُواطن حُرّ، مستقلٍّ برأيه، يرفض المقايضات التي تقود إلى تدمير أوطانه لعقود، وإعداد جيل يصفِّق ولا يصفِّق له أحدٌ، مهْما كانت مواهبه وإمكاناته وقُدراته، على قيادة نهضة علمية وصناعية واقتصادية، لا تقلُّ عن تلك النهضات الكبرى التي قادها هؤلاء البشر، في مناطق عِدَّة من العالم؟

ما الذي نستفيده من تعليمٍ يروِّض ويَسلب ويعطِّل ويزيِّف عقولَ هذه الأجيال، التي تَحلم بالأمل في الغد، تَحلم بأن تُحترم إرادتُها الحرّة، وكرامتها الإنسانية؛ وبِألّا تتحوَّل إلى مجرَّد جَوقة موسيقية، تُصفِّق لكلِّ مَن "يضحك" عليها بخطاباته، سواءٌ رجُلَ دِينٍ كان، أو رجُلَ سياسة أو رجُلَ ثقافة، وتنقاد لدعَواته، التي لا تقودها إلّا إلى صخرة تِلْو الأخرى، تتحطم عليها أحلامُها وآمالها؟!

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive