الرجوع

الذاكرة النِّسوية واستعادة التاريخ المسلوب

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/٠١/٠٧ |

هـ ١٤٤١/٠٥/١٢

تتعرَّض قضية المرأة المُسْلمة لِتوظيفٍ أو استغلال مُبالَغ فيه، مِن قِبل الأنظمة الإسلامية والعلمانية على حدٍّ سواء. فكلُّ نظام يدَّعي شرف تكريمها أو تحريرها، والكلُّ يستخدمها كرمز سياسي بامتياز؛ إمَّا للدعاية، وإمَّا لتبرير سياساته، وكلا الهدفَين يساهمان في تزييف الوعي النِّسوي. وهو ما جعل بعض الباحثات النِّسويّات -مِثْلِي-، يستعملن مصطلح: "تأميم قضية المرأة". يندرج إعادة كتابة تاريخ النساء، في إطار الحدِّ من قَولبة الوعي الجمعي، وتزوير الذاكرة الجماعية والتلاعب بها، لغايات الهيمنة والتسلُّط. فالهدف الأساسي من "تاريخ النساء"، هو استنطاق الحلقات المفقودة، وبناء الفجوات في السَّرديّات التاريخية الرسمية، التي أغفلت أدوار النساء. يحاول "تاريخ النساء" إلقاء الضوء على التاريخ المَنسيِّ، للنساء الفاعلات في المجتمعات الإسلامية قبل العصر الحديث؛ في محاولة لدحض المقولات التي تسعى إلى إقصاء المرأة من الحياة السياسية والاقتصادية، وتحجيم دورها في المجال الخاص (أيْ دائرة المنزل والعائلة والأطفال)، بل إن هذه المَقولات تُشرِّع هذا الإقصاء، وتَبني القوالب الجاهزة، وتُسقط على المرأة صفات الضعف والخنوع والاعتماد على الآخرين، في حين تُضفي على الرجل صفات القوة والجرأة والسيطرة على الفضاء العامّ. بذلك، على الباحثات النِّسويات اليوم، التنقيب عن النماذج النسائية التي تُجسِّد فاعلية المرأة في المصادر التاريخية المحجوبة. ومن تلك النَّماذج النسائية القَيِّمة، نَذكر: "شخصية أُمّ سَلَمَة زوجة الرسول(ص)، ومستشارته السياسية، التي كانت توصف في عصرها بـ" الرأي الصائب"؛ حيث كان لأُمِّ سَلَمة شرف مصاحبة الرسول (ص) في غزوات كثيرة، منها: غزوة خَيْبر وفتح مكة وغزوة هواز وثقيف. وقد رافقَته أيضًا في حِجَّة الوداع. فتُجسِّد هذه العلاقة الزوجية بين الرسول (ص) وأُمِّ سَلَمة، أبعادًا إنسانية وسياسية عميقة وذات دلالة، تُناقض الصورة السائدة للحريم والجواري في الحضارة العربية الإسلامية. لقد لعبَت أُمُّ سَلَمة دورًا حاسمًا في حادثة الحُدَيْبِيَة. ففي ذي القَعْدة سنة ستَّةٍ من الهجرة، خرج الرسول (ص) مع ألف وأربعمئة من أصحابه، متَّجهًا إلى مكة المكرَّمة معتَمِرًا وزائرًا ومعظِّمًا. وحين وصل إلى "عُسْفان"، أخبروه أنَّ قُرَيشًا قررت صدَّه ومنْعَه من دخول البيت. وقد حاول الرسول (ص) تجنُّب المواجهة والقتال، وسلَك طريقًا آخر وَعْرًا بين الشِّعاب. فلمَّا وصل إلى الحُدَيبية برَكت ناقته، فأقام في ذلك المكان، وأعلن استعداده للتفاوض. بعد المفاوضات، أُبْرِمَ صُلح الحُدَيبية بين الرسول (ص) وقريش. ومِمّا ورد فيه: الهُدنة ووَقْف الحرب مدة عشر سنين، وتأجيل العُمْرة ذلك العام، وأنْ يلتزم المسلمون في المدينة ردَّ اللاجئين المسلمين إلى قريش، في حال كان مجيئُهم إلى المدينة بدون إذن أوليائهم في قريش... إلخ. وقد أثارت هذه التنازلات سخط الصحابة، وبدأت تَبرز ملامح تَمرُّد الجنود على قائدهم بسبب شروط الصُّلح، التي رأوا فيها إذلالًا لهم وهزيمة غير منطقية. وفي هذا السياق، أطلَّت الفتنة على الأُمَّة الناشئة، وأصبحت تُهدِّد وُجودَها. دخَل الرسول (ص) على أُمِّ سلمة حزينًا مهمومًا وحائرًا، فقال: "هلَك المسلمون هلَك المسلمون". فقالت له أُمُّ سلمة: يا نبيَّ الله، أتُحبُّ أن يُطيعوك؟ قال: بلى. قالت: اخْرُج ولا تُكلِّمْ أحدًا منهم ولا تَنظر إليهم، وانْحَر هَدْيَك، وادْعُ حالِقَك فيَحْلِقَكَ، وسيَنصُرك الله. فأخذ الرسول بمشورة زوجته، وتبنَّى رأيها وطبَّقه. وهو ما يناقض جوهريًّا المقولة السائدة: "شاوِرْهُنَّ وخالِفْهُنّ". وعندما شاهَد الصحابة فِعْل الرسول (ص)، قاموا فنحَرُوا، وجعل بعضهم يَحْلِق بعضًا اقتداءً برسول الله (ص). تُبيِّن هذه الحادثة التاريخية، الدَّور الفاعل الذي لعبَتْه أُمُّ سَلَمة في أزمة مصيريَّة، وكيف أنها اخترقت مجالًا ذكوريًّا بامتياز، وهو مجال الحربِ والسِّلم والإستراتيجيا السياسية. وهنا، يمكننا استدعاء الماضي، لِتفكيك المفاهيم المغلوطة حول الأنوثة والذكورة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive