الرجوع

بين النظرة الأُحادية والقراءة التعددية: أين تكمن الحقيقة؟

الأربعاء

م ٢٠١٧/٠٤/١٩ |

هـ ١٤٣٨/٠٧/٢٣

إحدى أبرز المشكلات التي نواجهها في الواقع الديني عامة، وفي الواقع الإسلامي خاصة، هي النظرة الأُحادية للأمور، بدل النظرة بِروح تعددية وشاملة؛ ما يؤدي إلى اختصار المعرفة والحقيقة، من خلال وجهة نظر واحدة، وتعطيل الوصول إلى الحقيقة الكاملة.

وتبرز هذه الإشكالية بوضوح في ظل الصراعات والأحداث التي تشهدها بعض الدول العربية، والتي ينقسم فيها الرأي العامّ إلى اتجاهين متضادَّين. فكل فريق يُنظّر للأحداث من وجهة نظره الخاصة، أو من خلال منظوره السياسي، أو الفكري، أو الأيديولوجي، بدل أن ينظر إلى الأمور بِروح موضوعية وحيادية.

فإذا حصلت مجزرة مروعة ضد أطفال أو نساء، من فريق سياسي أو حزبي معيَّن، يندفع المؤيدون لهذا الفريق في إبراز الصورة الوحشية لما حصل، ويجري حشدُ كل الإمكانيات من أجل تأكيد هذه الجريمة المدانة. وبالمقابل، إذا تعرض النساء والأطفال من الفريق الآخر لمجزرة وحشية أخرى، لا نجد الاهتمام نفسه من الفريق السابق، بل يجري إيجاد التبريرات لهذه الجريمة، أو العمل لقلب الحقائق، مع أن الجريمتين مدانتان، ولا يمكن تبرير أية جريمة وحشية، بِغضّ النظر عن المسؤول عنهما.

هذا في الواقع السياسي والصراعات القائمة في المنطقة، والأمر نفسه ينطبق على الحقائق الفكرية، والآراء السياسية، أو العقائدية. فكل صاحبِ رأي يعمل من أجل تأكيد وجهة نظره أو رأيه، وتسفيه الرأي الآخر، دون أيّ استعداد للحوار والمناقشة، أو السعي لجمع المعلومات والمعطيات حول هذا الموقف.

وهذه النظرة تخالف كل القواعد التي أرساها الدين الإسلامي في الحوار والنقاش، والبحث عن الحقيقة. ففي القرآن الكريم قاعدة مهمة للنقاش والحوار بين المؤمنين والكفار، تجسدها الآية الكريمة: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سورة سبأ: 24]. فمع أن المؤمنين يؤمنون بأن معهم الحق، فإن القرآن الكريم يقدم لهم صورة مهمة في هذه الآية، وذلك عبر الاستعداد للحوار والنقاش مع الآخرين، على قاعدة المساواة في البحث عن الحقيقة.

ونقل عن الإمام الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». وهذا القول يؤكد الاستعداد والحوار مع الآخر، في إطار البحث عن الحقيقة.

لكن ما نلاحظه اليوم في الأوساط السياسية، والإعلامية، بشكل عامّ، وخصوصا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما في الأوساط المتدينة، أنَّ كل صاحبِ رأي أو وجهة نظر، يدافع عن رأيه بشكل أعمى، ويتهم الآخرين بالكذب أو الخداع، ولا يبدي أي استعداد للاستماع إلى وجهة النظر الأخرى، أو البحث عن الحقيقة بشكل موضوعي وحيادي، بل إنه في بعض الأحيان ليس لديه الاستعداد للتدقيق في المعلومات والصور والتعليقات التي تصله، بل هو مستعد لتبنِّيها بشكل كامل، ما دامت تدعم رأيه ووجهة نظره، وتدين الفريق الآخر الذي يختلف معه.

إننا نحتاج اليوم إلى إعادة تربية أنفسنا على القواعد الأساسية للحوار والنقاش، من خلال الاستعداد لمعرفة وجهة نظر الآخر، أو الاطلاع على الحقيقة من زوايا أخرى ومتعددة، وعدم الاكتفاء برؤية الأمور من وجهة نظر أُحادية.

وهذه القاعدة ليست عملية سهلة، في ظل اشتداد الصراعات السياسية والفكرية والمذهبية، وفي ظل هذا الانقسام الحادّ بين مختلف الأفرقاء، وانتشار الاحتقانات الطائفية والمذهبية. ولذا، المطلوب إعادة نشر الحقائق البديهية والأولية التي أرساها الدين الإسلامي، في البحث عن الحقيقة، والعدل في التعاطي مع الآخرين، وَفْقًا للآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة المائدة: 8].

وفي الختام، بين النظرة الأحادية للأمور، والرؤية التعددية للحقائق، مسافة ليست قصيرة، بل تحتاج إلى الكثير من الوعي، والإيمان، والتدين الحقيقي، وهذا ما نحتاج إليه اليوم.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive