الرجوع

دعوةٌ إلى العودة للجوهر

الثلاثاء

م ٢٠١٧/١٢/٢٦ |

هـ ١٤٣٩/٠٤/٠٨

كان للحضارة الإسلامية إسهامات مُهمة في العلوم المختلفة، كالطب والهندسة والمعمار وعلوم الفلك، بالإضافة إلى علم الفلسفة. علماء كثيرون احتفظ التاريخ بأسمائهم وأعمالهم التي ما تزال تُدرّس حتى اليوم، بعضهم كان ملمًّا بأكثر من جانب من العلوم، بالإضافة إلى علوم الدين التي كان الإلمام بها حافزًا مشجعًا على الإبداع؛ لِما كانت تدعو إليه من التفكر والتّدبر، وفتح باب الاجتهاد، وإعمار الأرض.

إلّا أنّ ما جرى خلال عقود في تاريخ منطقتنا كان مختلفًا، إذ لم يكتفِ بعض الدعاة بالدعوة إلى الأسس العريضة (العناوين) التي تحمل جوهر الدين للناس؛ ليبنوا عليها ويملؤوا صفحاتهم بتجارِبهم الشخصيّة، بل عمدوا لملء تلك الصفحات بدلًا عن الناس، بتقديم "كتالوج" واحد للجميع يدخل في تفاصيل التفاصيل، حتّى أصبحت كل تفصيلة في الحياة تحتاج إلى فتوى، والخروج لقضاء أيّ حاجة يحتاج إلى رأي، فأسهب بعض رجال الدين في سرد التفاصيل، وأخذ بعضهم في اتّباعها وتطبيقها، وغرِق من يتبعهم في السطحيّات حتّى أضاعوا الجوهر، وغابت لديهم العناوين التي هي جوهر الدين، والهدف منه.

كثرت برامج الفتاوى على الهواء، وأصبح واضحًا تبعيةُ عددٍ لا بأس به للدعاة، واعتمادُهم على فتاويهم وآرائهم في تسيير شؤون الحياة، تبعيةً أدرَكْنا لاحقًا سلبياتها، خصوصًا وأن تلك الآراء كانت توجِّه المتابعين إلى التفاصيل اليومية والحياتية للأفراد، وإلى العبادات والمظاهر، أكثر من توجيههم إلى جوهر الدين ورسالته؛ فظهر نوع من التدين الشكلي القائم على العبادات، المتناسي أنّ الدين سلوك ومعاملة، وأنّه لا خير في متديّن لا يَظهَرُ دينُه فعلًا ورحمةً وإعمارًا للأرض.

مَبدَآ الدعوة إلى الحقّ والنهي عن المنكر، أخَذَا منحًى مظهريًّا فقط، وأصبح من الطبيعيّ أن يتطفّل أحدهم على حياة امرأة، داعيًا إلى الأمر بالمعروف، وناهيًا عن منكر شَعْرِها الظاهر، مُتناسيًا كلّ المُنكرات التي تُحيط به من ظلم، وفقر، وتعنيف أطفال، واغتصاب للطفولة تحت مسمّى الزواج، ونفاقٍ مُستشرٍ. كلّ هذه المنكرات لا يرَاها المتديّن (المظهريّ)، في حين تثيره امرأة محترمة تكشف شعرها.

هذا الباب بالذات أُسيءَ استخدامُه في كثير من الأحيان، وأُفرغ من محتواه وجوهره حتّى أضحى بابًا للتنمُّر للآخرين، واقتحام خصوصيّاتهم التي لا تؤذي أحدًا، واستسهال التنابز والغيبة بسبب الاختلاف، وإعطائهما مشروعيّة تتنافى معَ أسس الدين في الرحمة والمعاملة الحسنة؛ ما أدّى إلى ابتعاد بعضهم عن الدين؛ تمسّكًا بمبدأ الحرّيّة الشخصيّة، ورفضًا لوصايةِ مَن لا يملك الحقّ فيها.

نحن أمام أجيال تُؤمن بالعلم والعقل، أجيال رأتْ بأُمِّ أعينها مآسيَ الاتّباع الأعمى للشخوص، الذين سقط بعضهم في امتحان المبادئ الأخلاقيّة. هذه الأجيال لن تقبل دعوة تحييد العقل، التي بنى عليها المتطرفون طاعة أتباعهم العمياء لهم. جيل لن يقنعه سوى خطاب ديني حيوي يأخذ التطور العلمي والمعرفي والحياتي على محمل الجد، خطاب يتقبل الجدل والنقاش والاجتهاد بما يصب في الصالح العام، ويتماشى مع المستجدات.

لِنَعُدْ بالدين إلى الجوهر، إلى مبادئ الخير والحبّ والصدق والوفاء. نحن اليوم في حاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى خطاب يحترم العقول، والعودة إلى الأساس، إلى أعمدة الدين الرئيسة، ليبني كلّ شخص بناءه كما يُملي عليه عقله وإيمانه؛ وهذا ما يفتح باب الإبداع المغلق منذ عقود بسبب التلقين وجمود تفسير النصوص. لا يُمكن أن تخلق الكاتالوجات الجاهزة إبداعًا، ولا يُمكن لِمَن يعتقد أنّه يملك كلّ الأجوبة أن يتفكّر وينتج. باب الاجتهاد يجب أن يُفتح مُجدّدًا وعلى أوسع أبوابه، بما يتناسب وتطوّرات العلم والمعرفة والزمن.

لكلٍّ منّا طباعه وغاياته وفسيولوجيّة جسده الخاصّة التي تختلف عن الآخر، ولكلّ منّا كتاب حياته الذي يكتبه هو، ضمن أسس الإيمان وقواعده وعناوينها العريضة. والله خلق لنا العقول وميَّزَنا بها عن الكائنات الأخرى، فكيف يُعطينا عقولًا ثمّ يطلب منّا تحييدها وعدم استخدامها؟ في هذا سوء ظنٍّ بالله وبحكمته وبالهدف الذي خلقَنا من أجله. عدم استخدام العقل فيه رَفْس لنعمة عظيمة من نِعَمِ الله، وتقاعسٌ عن استخدام هذه النعمة في التفكّر، والإبداع، وإعمار الأرض.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive