الرجوع

أيمكن للنفاق أن ينتج تدينًا صحيحًا؟

الإثنين

م ٢٠٢٢/٠٩/٢٦ |

هـ ١٤٤٤/٠٣/٠١

أعادت جريمة قتل الشابة الإيرانية "مهسا أميني" على يد ما يسمى بشرطة الأخلاق في طهران، النقاش حول التحجيب القسري، أو تطبيق قوانين الحجاب الإجباري. أما الفتاة الضحية فكانت قد دخلت في غيبوبة، ثم فارقت الحياة بعد توقيفها بساعات قليلة. لم تكن "مهسا" تدرك أن زيارة عائلية لطهران ستنهي حياتها بهذا الشكل المؤسف. وفور إعلان الوفاة، خرجت حشود من النساء والرجال المتضامنين إلى الشوارع تندد بالجريمة، وتتمرد على القوانين الإجبارية التي انتزعت من المرأة حريتها الشخصية، وفرضت عليها بصرامة قالبًا واحدًا لا يناسب قناعات كل النساء. 

كان الحجاب الإجباري قد فُرض على المرأة الإيرانية بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. وفي حين تتمرد المرأة الإيرانية على قوانين "القالب الواحد" في إيران، يحاول بعض السياسيين في الكويت برأيي أن يخلخل التنوع الثقافي، الذي أثرى المجتمع الكويتي وميزه. الوثيقة التي تسمى "وثيقة القيم"، والتي طُلب فيها إلى مرشحي الانتخابات الكويتية التوقيع عليها، وصَفها المعارضون بأنها محاولة لمصادرة الحريات، في حين أن هدفها سياسي بحت. من بنود هذه الوثيقة تفعيل قانون اللباس المحتشم، وتطبيق قانون منع الاختلاط، وهو ما يراه المعارضون والمتمسكون بحرية الشعب الكويتي وبجمالية تنوعه، رِدَّة فكرية حضارية، وصلت إلى حد إطلاق اسم "وثيقة قندهار" على ما يسمى بوثيقة القيم في تشبيه له مدلولاته ولو كان غير موفقًا، ثم تشبيه الداعين إليها بحركة طالبان، في مواقفهم المتشددة من المرأة، والقامعة للحريات.

كثيرًا ما يجري وضع لباس المرأة تحت بند القيم والأخلاق في العالم العربي؛ ما يثير التساؤل حول ماهية القيم التي نتحدث بها، وما مصادرها، وهل مصدرها هو الدين أم المجتمع أم الدستور أم الثلاثة معًا. وإنْ كان الدين أحد المصادر، فإن التنوع في أنماط التدين وفهم الدين يجعل فرض قالب واحد على الجميع منافيًا حتى لقيم الناس الدينية المختلفة. فالقيم نسبية، تختلف باختلاف الزمان والمكان والمعتقدات، ومَهْما ظهر للناس أن الأغلبية تحت مظلة معتقد واحد، فإن الاختلافات في الأفكار تميز البشر، وتبني مجتمعًا صحيًّا خاليًا من النفاق. 

عندما نفرض على الناس فكرًا واحدًا، ولباسًا واحدًا، مع تسليمنا بأن للناس عقولًا متفاوتة وتجارب مختلفة، صنعت معتقداتهم وأفكارهم المتنوعة؛ فإننا نصنع بجدارة مجتمعًا منافقًا، يضع فيه الفرد الملتزم لِلِّباس الموحد قناعًا زائفًا لا يمثله، ولا يمثل أفكاره. فنرى أن العلاقات بين البشر أصبحت في منتهى الصعوبة، لأن الأقنعة لا تستمر على وجوه أصحابها إلى الأبد. فالصداقة والزواج وغيرهما من العلاقات، تحتاج إلى صدق ونزاهة، والصدق يكلف غاليًا في مجتمعات القالب الواحد. 

أستغرب كيف لا يُعتبر الصدق من أهم القيم التي يجب على المجتمع حمايتها، مع أن من أهم أنواعه التعبير عن الرأي والفكر، بل إن الصدق هو أعظم الأخلاق. فكيف يُعتبر المنافق الذي يدافع عن أفكار لا يَعمل بها ولا يطبقها شخصيًّا، أفضل من الصادق الذي يعلن أفكاره وآراءه أمام الناس، ويترك لهم حرية اختيار استمرار علاقاتهم الإنسانية به؟! فالأول مخادع، والثاني صادق متوازن وإن لم تعجبنا آراؤه.

الصدق تاج الأخلاق، يجنبنا الخداع، ويبعد عن مجتمعاتنا النفاق والرياء، ويقوي العلاقات الإنسانية، ويجعلها صلبة ثابتة على أسس صحيحة. ومن أنواع الصدق صدق الأعمال، وهي أن تكون أعمال المرء الظاهرة صورة لحالته الباطنة. وفضيلة الصدق لا يمكن أن تنبت في مجتمعات تفرض مظاهر واحدة على الجميع.

المجتمع الذي لا ينتشر فيه الكذب والنفاق، هو المجتمع الذي لا يجعل الصدق مكلفًا، فلا يدفع فيه الصادق ثمن صدقه في إعلان أفكاره سواء بالكلام أو بالمظهر، وهو المجتمع الذي يحتفل بالتنوع، ويدعم التعبير عن الرأي، ويكفل حرية الفرد في اختيار نمط حياته الفردي بما لا يتعارض مع حريات الآخرين.

لم تفلح المجتمعات في فرض التدين بالإجبار على مر العصور، بل إن النتيجة الحتمية للفرض هو التمرد والرفض. والمشكلة أن التمرد عادة ما يأتي محمَّلًا بالكراهية وحب الانتقام، فتستمر المجتمعات في الدوران في الحلقات المفرغة من القمع والقمع المضاد. والحل لا يكون إلا بالحرية وقبول التنوع والاختلاف، وهذا ما تمليه علينا قراءة التاريخ وفهم الحاضر المتغير، والإعداد لمستقبل أفضل.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive