الرجوع

تربية دينية أم تربية روحية؟

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/١٠/٠٦ |

هـ ١٤٤٢/٠٢/١٩

لقد شهدت تونس منذ أيار/مايو 2011، أعمالًا إرهابية تصاعدت وتيرتها بدءًا من عام 2013، وراح ضحيتها العشرات من عناصر الجيش والأمن والمدنيين/ات والسائحين/ات الأجانب. واهتزت تونس في الأيام الأخيرة على وقع هجوم إرهابي تَجسَّد في عملية دهس نفذها ثلاثة متطرفين، أدت إلى استشهاد حارس أمْن، وإصابة آخر بجروح بليغة. وقد تبنَّى “تنظيم الدولة الإسلامية” هذه الجريمة البشعة. والأخطر هو أن وزارة الداخلية التونسية، أعلنت منع سبعة وعشرين ألفًا من حاملي الفكر المتطرف من السفر إلى بُؤَر التوتر. وهو ما يؤكد نجاح الإرهاب في استقطاب شريحة هامة من الشباب التونسي، والتمكن من التلاعب بانفعالاتها وإثارة غرائزها الساديَّة والمازوشية عبر عمليات النحر والانتحار.

في هذا السياق علَّل العديد من المحللين ظاهرة التطرف، بالرجوع إلى سياسات التضييق على الأحزاب الدينية، وتجفيف المنابع التي انتهجها النظام السابق، والتي أدت إلى نوع من التصحر الديني. لكن المتمعن في هذا الأمر ينتبه لتهافت هذا التعليل. فاليوم -وبعد ثورة الياسمين- نجد في الجمهورية التونسية ستة آلاف وتسعة وتسعين جامعًا ومسجدًا، وألفًا وسبعمائة مدرسة قرآنية نظامية، ومئات الكتاتيب الموازية. وتضم جامعة الزيتونة العريقة ثلاثة معاهد عُليا يؤمُّها آلاف الطلبة، الذين يَدرسون العلوم الشرعية. وتَنشط الجمعيات والأحزاب والتنظيمات الدينية بصورة قانونية، وتبث يوميًّا عشراتُ القنوات التلفازية والإذاعات الدينية برامجَ توعوية ودَعوية.

لنا أن نتساءل اليوم عن سر ثبات الفكر الإرهابي، ومقاومته لكل الخطابات الدينية الوسطية الأزلية. وهو سؤال لم نجد له جوابًا شافيًا. وهو ما يجرُّنا إلى مساءلة جذرية للأسباب الحقيقية لعُطالة منظومة التربية الدينية، وإلى ضرورة تفكيك خطابها السائد اليوم.

إن الميزة الأساسية للفعل الإرهابي هي أولًا تبخيس حرمة البشر وكرامتهم، لأنه يُختزل باعتباره مجرد وسيلة إلى الوصول إلى أهداف سياسية؛ ثانيًا انتهاك تعاليم كل الشرائع السماوية. فالقرآن الكريم ينهى عن قتل نفس واحدة ظلمًا وعدوانًا، ويعتبره جريمة ضد الإنسانية. أيضًا تَمنع الشرائع أخد البريء -مهما كانت الظروف والملابسات- بجريرة المجرم: {أَلَّا تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أُخْرى}. وجاء هذا الأمر في عدة مواضع في القرآن الكريم، في سور الأنعام وفاطر والزُّمَر والإسراء، وأيضًا في سورة النجم.

هذا تأكيد لعدل الله تعالى في خلقه، وتشديد على المسؤولية الفردية والجزائية، وعلى أنه تعالى لا يَظلم، ولا يحمِّل الفرد ما لم يرتكب من الإثم، وأن كل شخص محاسَب على ما كسب، مُجازًى بما أنجَز.

يقسِّم الفكر الإرهابي العالم إلى قسمين متناحرين: دار الكفر ودار الإيمان، ويغرس في أدمغة مُريديهِ كراهية الحياة والأحياء، في حين تعيش الإنسانية اليوم ما يسميه الفيلسوف الفرنسي “إدغار موران” العصر الكوكبي، الذي تتشابك فيه مصائر الشعوب والطوائف في السراء والضراء. فالجميع يتفق اليوم، على أن البشرية تعيش اليوم على مبدأَيِ التكافل والاعتماد المتبادل، بواسطة شبكة واسعة معقدة من العلاقات الجدلية في كل المجالات، مثل: الصحة والاقتصاد والثقافة والبيئة. ألم تُبيِّن جائحة الكورونا هذا العام استحالة التقوقع القومي والانعزال القطري؟ ألم تبيِّن الكورونا وحدة البشرية؟ وعليه:

– هل تقوم التربية الدينية اليوم بتمرير هذه الرسائل الروحية؟

– هل تؤدي المؤسسات الدينية دورها في تجديد العقد الاجتماعي في عالمنا اليوم؟

– هل تدعم الخطابات الدينية بروز حضارة بشرية واحدة، تتعرّف إلى هويتها في القيم الإنسانية الكونية المشتركة وفي الضوابط الأساسية، للعيش معًا في عالم موحد ومُعَولم ومعقد؟

– هل يمكننا صياغة خطاب تربوي روحي جديد، يدرس جميع لحظات البشرية وكل تطورات المقدَّس في تاريخها، ويعمل على خلق هوية إنسانية جماعية مشتركة يتعرف فيها جميع البشر إلى أنفسهم من خلالها؟ إن هذه الهوية المشتركة لا تهدد الهويات الدينية ولا تطمس الثوابت والخصوصيات الثقافية، بل سوف تثريها وتكملها.

يبدو أن هذه التساؤلات أصبحت مشروعة، لمواجهة تحديات يتوقف على رفعها شفاء الحضارة الحالية وخلاصها، بل وربما بقاء النوع البشري نفسه.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive