انتشر في السنوات الماضية مصطلح جديد عرف باسم "صناعة المحتوى"، ورويدًا رويدًا أصبح المصطلح مهنة يمتهنها الكثير من الناس، بل تطور الأمر إلى وجود ورش تدريب لصناعة المحتوى، تُعلِّم الشباب كيف يجني معدَّل تفاعل كبيرًا على وسائل التواصل، وكيف يحول الهاتف الذي يحمله إلى وسيلة إلى كسب المال السريع. لكن المحتوى ليس له شكل محدد، ولا يستند إلى أي قوانين أو قيم، ولا يخضع للعلم أو للمنطق أحيانًا، بل الكثير مما يعرض حاليًّا يمكننا تصنيفه -برأيي- تحت بند "اللامحتوى"؛ إذ هو بلا قيمة، ولا هدف له سوى الإسفاف ونشر الجهل وخلط الخاص بالعام.
في مسلسل "النار بالنار"، الذي عرض في رمضان، جسَّد الكاتب "رامي كوسا" مأساة جَنْي المال مما أسمِّيه "اللامحتوى"، في شخصية فتاة تحولت إلى ما يشبه الزومبي، لا يفارق الهاتف يديها، وهي تتغنج أمام تطبيق التيك توك تارة، وتارة أخرى تنفعل وتجنُّ أمام المتابعين، ليرى الناس أن الأمر تعدى الرقص والغناء واستعراض الحياة الخاصة، وتحول إلى مرض مستعصٍ ليس من السهل علاجه، وفيه حالة من الانفصال عن الواقع، والعيش في محيط غريب من الأسماء الوهمية، التي اتخذت من عالم التيك توك عالَمًا موازيًا، الهدف منه قتل الوقت بلا فائدة.
لا تحتاج إلى تطبيق تيك توك حتى ترى الكوارث التي تقتحم عالمك بلا استئذان؛ إذ يكفي أن تتصفح الإنترنت وتقرأ الأخبار، ليقفز مثلًا أمامك وجه امرأة تصرخ بشكل هستيري، حيث يدفعك فضولك إلى البحث عن قصتها، فتجد أنها حديث الساعة. لقد علقت حياتها الخاصة على أحبال السوشيل ميديا منذ سنوات، وكان الغسيل مبهرًا في البداية، وجلَب الإبهار تفاعلًا جيدًا. أما اليوم، فيبدو أن الدور حان لنشر الغسيل المتسخ عليه، الذي يجلب أعدادًا أخرى من المتابعين المَلُولِين الراغبين في التغيير.
لا يقتصر ما أسمِّيه مصطلح "اللامحتوى" على السخافات وعرض الحياة الخاصة، بل يشمل فيديوهات النصائح التي تُرشُّ رشًّا على كل متصفح. فالرجل الذي بدأ مشروعًا أصبح خبيرًا بالمشاريع الناجحة، ناصحًا للشباب، وذاك الذي تزوج أصبح خبيرًا بالعلاقات الأسرية، والسيدة التي أنجبت طفلين أصبحت خبيرة بالتربية، وإقامة دورة مدة ثلاثة شهور أصبحت تؤهل صاحبها لعلاج الاكتئاب ونوبات القلق والتروما. يكفي أن تتحدث قليلًا بحياتك الخاصة، حتى تبدأ بسيل النصائح بدون حسيب أو رقيب. لا تحتاج إلى أي مؤهل علمي، وإن احتجت إليه فدورات "أونلاين" متوافرة وجاهزة لتوزيع الألقاب الكبيرة بمبالغ بسيطة. وهناك الدكتوراه الفخرية التي يوزعها أحد المراكز لقاء مبلغ بسيط، فيمنحك لقبًا تستطيع أن تقرنه باسمك من أجل تحسين شروط التسويق.
طبعًا لا يمكن نسيان الخطابات الشعبوية، التي تستمد قوة انتشارها من اللعب على العواطف، وتكون عادة محملة بخطابات كراهية أو عنصرية، لكنها تضعها في إطار منمق غير مباشر؛ ما يجعل تصنيفها تحت بند خطاب الكراهية صعبًا، وهذه دائمًا تجد إقبالًا، وتتحجج بالسخافات الموجودة لجلب المتابعين، باعتبارها محتوًى قيِّمًا.
لا يمكن إنكار أن هناك صناع محتوى حقيقي، اجتهدوا منذ البداية، وكان كل منهم مميزًا بمهارة أو موهبة أو تجربة ثرية، لكنهم قلة، استفادوا من الفضاء لإظهار موهبتهم، فأبدعوا وانتشروا. وهؤلاء أضعهم تحت تصنيف المبدعين/ات الذين يستحقون المتابعة، وأجدهم أكثر الضحايا. فخطاباتهم أصبحت مصدرًا للنسخ واللصق. أما الكثير من صناع اللامحتوى، فيسرقون فكرة من هذا، وفكرة من ذاك، ويحاولون إعادة اختراع العجلة بتعبئة محتواهم بكلام قد يبدو منمقًا، وهو ليس إلا سرقة لأفكار غيرهم، ومن الصعب جدًّا اكتشافها.
أعرف أن حرية التعبير تقتضي السماح بأي خطاب، ما دام لا يؤدي إلى كراهية، ولا يدعو إلى أذية. ومع أنني أرى بعض الخطابات مؤذية، وتحرض على الآخر بشكل أو بآخر، فأنا لا أدعو إلا إلى رقابة ذاتية. فالإنسان نفسه الذي يعترض على صعود السخفاء، هو نفسه الذي يصنعهم باللايك والشير والمتابعة. ومن المؤسف أن يفقد الإنسان القدرة على تمييز الجيد من الرديء، لكن الأمر يصبح خطيرًا عندما يجري تكريم صناع "اللامحتوى" من قبل المسؤولين، ويُدعَون إلى الموائد التي يُستثنى منها العلماء والمبدعون. إنها رسالة مرعبة يتلقفها الشباب، مفادها أن الشهرة هي أهم ما يسعى إليه الإنسان، أي الشهرة بلا هدف وبأي وسيلة، وأن العلم والاجتهاد تضييع للوقت والجهد.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.