الرجوع

اِنتصار جُزئي

الأربعاء

م ٢٠١٨/١٢/١٢ |

هـ ١٤٤٠/٠٤/٠٤

اِنتهت المعارك ضد "داعش" عسكريًّا، وحقَّق العراق الانتصار على تنظيم هدَّد العالم أجمع. لكن الانتصار لم يكن كاملًا، بل اقتصر على الجانب العسكري فقط. وقد ركَّزت الحكومة التي صُودف وجودها مع بدء الحرب ضد التنظيم، على الجانب العسكري فقط، في حين أهمَلت بشكل شبه متعمَّد الجانب الإنساني؛ لأنها لم تُحاسِب مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان، ولم تُعِدّ خطة استجابة عاجلة لاستقبال ملايين النازحين، وما حاسبت من تسبّب بإهدار الأموال المخصَّصة لهم.

شهدت المعارك التي خاضتها القوات الحكومية العراقية ضد "داعش"، أخطاءً عسكرية كبيرة، وانتهاكات عدة لحقوق الإنسان، بحسب تقارير المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، حتى الأمم المتحدة. وكانت تُبرِّر الحكومة آنذاك تَجاهُلها محاسبة المقصِّرين في تلك الانتهاكات، بسبب انشغالها بالحرب وكيفية تدبير الأموال اللازمة لاستمرارها، دون العودة خطوة إلى الوراء.

بعد إعلان النصر في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 2017، ضُلِّل المواطنون بادِّعاء أن كلَّ شيء انتهى، وأن مع زوال وجود الإرهاب عسكريًّا بالسيطرة على عدة مدن عراقية، زال كلُّ خراب، وأُخمدت نيران المعارك وتداعياتها. لكن الحقيقة، عكس ذلك تمامًا. فقد بقي حتى اللحظة مليون ونصف المليون نازح في المخيمات، وفي المناطق السكنية التي رَفع بعض أصحابها قيمة الإيجار أمامهم، وبقي آلاف المغيَّبين قسريًّا لم يُعرف مصيرهم، وبقي مئات الأطفال المبتوري الأطراف دون مساعدة علاجية، وبقي أناس يعيشون في أطلال منازل هُدمت بسبب تنظيم داعش، أو بسبب القصف غير الدقيق من قِبل التحالف الدولي، أو بعض القوات العراقية المحررة.

لماذا نقول إن الانتصار جزئي؟ لأن ما ذُكر سابقًا، هو الحرب الحقيقية التي يجب خوضها. فيجب أن تخوض الدولة العراقية حربًا حقيقية ضد الفقر الذي تسبَّبت به الحرب، وضد الأمراض التي تفشَّت، وضد مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان، وضد عملية تهديم المدن التي صارت غير صالحة للعيش. هذه هي الحرب التي يجب أن ننتصر فيها. وأيضًا لا يمكننا التقليل من أهمية الانتصار العسكري. لكن، في ذات الوقت، لا يمكن إغفال أو تجاهُل المأساة الإنسانية التي ما زال يعانيها ملايين العراقيين، الذين كانوا يعيشون في مناطق سيطرة تنظيم "داعش".

إنّ الحكومة الحاليّة لم تقدِّم حتى الآن برنامجًا حكوميًّا، فيه ما يُعالج الأوضاع السيئة في المناطق المحرَّرة. هذا يشير إلى أن ملفَّ حقوق الإنسان، ما زال بعيدًا عن أولويات الحكومات العراقية، التي ربما تعرف أو لا تعرف ماذا يمكن أن تُنتج هذه المأساة، من تداعيات خطيرة مستقبلًا، على مستويات اجتماعية وتعليمية وأمنية وصحية، حتى اقتصادية.

صِرنا الآن أمام مخاطر كبيرة، ربما خطرها أكبر من خطر تنظيم "داعش". على سبيل المثال: العوائل التي عُزلت وحدها في مخيمات في الصحراء، لأن أحد أفرادها كان ينتمي إلى التنظيم الإرهابي، لا يمكن لها أن تكون عوائل مسالمة إن استمر بقاؤها هناك. هذه هي الحقيقة. فالأبرياء حاليًّا قد يتحوَّلون إلى أعداء للدولة العراقية، التي عزلتهم حكومتها في الصحراء، وكأنهم جُناة أو عناصرُ تابعون لـ"داعش".

الانتصار العسكري يتحقق. إنْ لم يكن بجهود داخلية، فبمساعدة دول أخرى. لكنّ حالات التطرف والفقر والدمار في المدن، لا أحد يعمل على إنهائها سوى من يعانيها. لدينا في العراق أكثر من ألف طفل يعانون نفسيًّا آثارَ مشاهد الحرب التي عاشوها، وفقًا لأرقام وإبلاغات من عوائلهم. وهؤلاء لا يذهب عدد كبير منهم إلى المدارس بسبب وضعهم النفسي. في المقابل، ليس هناك مراكز إعادة دمج وتأهيل نفسي لهؤلاء الأطفال، بل برامج سطحية لا تتناسب وحجم الكارثة. أيضًا هناك مئات الأطفال المبتوري الأطراف في المناطق المحرَّرة بسبب الحرب، لا يجدون مشروعًا حكوميًّا يوفر لهم الأطراف الصناعية. مقابل هذا، يوجد في مدينة الموصل في كلِّ شارع فيها  7 – 10 متسولين من الأطفال. بعضهم كان يذهب إلى المدرسة قبل الحرب، لكنه الآن يتسوَّل لأن يده أو قدمه بُترت، أو لأنه فقَدَ عائلته دون معرفة مصيرها.

إنَّ ترك المأساة الإنسانية دون إنهائها أو الحدِّ منها، يَعني أنها ستتفاقم، ومع تفاقمها سنَخلق فرصًا كبيرة وكثيرة للعصابات والتنظيمات الإرهابية، وللجهل والأُمِّيّة أيضًا. الأخيرة (الأمّية) زادت نسبتها بين 45 – 50 % في المجتمع العراقي، بحسب تصريح لعضو لجنة التعليم في مجلس النواب قصي الياسري، وارتفعت نسبة خط الفقر إلى أكثر من 32%، في حين كانت 19% في عام 2013.

إننا أمام خسارة إنسانية، وانتصار عسكري. فإنْ خسِرْنا الإنسان، خسِرْنا الانتصار العسكري أيضًا.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive