الرجوع

لو لم يعد وطنك موجودًا

الأربعاء

م ٢٠١٨/٠١/٣١ |

هـ ١٤٣٩/٠٥/١٥

 

هل سأل أيٌّ منكم نفسه ذات يومٍ: ماذا سيَحدث حين لن يعود وطني موجودًا، أو حين أُضطر إلى تركه على سبيل المثال تحت أي ظرفٍ من أجل الحفاظِ على حياتي، أو حياة أي من أفراد أسرتي، أو مجتمعي؟

إن سؤالًا كهذا كافٍ ليبثَّ الرُّعب في قلوب الكثيرين في المنطقة العربيّة، إنه كابوسٌ يتمنّى كل من راوَده أن يصحو منه بسرعة ليخرج متحققًا: هل لا يزال يعيش على تراب وطنه، وينعمُ بهوائه، ويخرجُ إلى الطرقِ التي ألِفَها لزيارة والديه، وأصدقائه الذين تعوّد أن يقضي معهم جزءًا من يومه؟

قد لا يعي من لم يفقد وطنًا فَدْحَ هذا السؤال، ومعنى أن يكون الإنسان مهاجرًا أو لاجئًا بدونِ وطنٍ، وأنْ يرى دول العالم تتصارعُ من أجل اقتسام وطنه لا من أجل تهيئة السُّبل لعودته. حدث هذا لكثيرين، وقد يحدث لغيرهم.

هل يتخيّل المواطنون في الدُّول الكبرى والمستقرّة والدّيمقراطيّة هذا السؤال، كما يتخيّله المواطنون في الدُّول الصُّغرى التي تسيطر عليها الصّراعات والانقسامات والمحسوبيّات، وتغيب عنها الدّيمقراطيّة والمشاركة؟ بماذا سيجيبون لو سُئلوا عن المستقبل؟ هل سيكتب الجميع على حدٍّ سواءٍ بعد مئات السّنين في حالة أنّ بلدنا ظلَّ موجودًا؟ لا أعتقدُ ذلك؛ لأن الشّعور بهشاشة الوجود، وهشاشة الأوطان سياسيًّا واقتصاديًّا وحضاريًّا، ليس نفسَهُ عند الجميع، فالأمم القويّة تمنح مواطنيها قوّةً للنّظر إلى المستقبل، والأمم الضّعيفة تولّدُ في نفوس مواطنيها ضعفًا يؤثّر في شعورهم، ليس بالمستقبل فقط، إنّما بالحياة.

حين سُئلَ الكاتب التّشيكيُّ ميلان كونديرا مثل هذا السّؤال، منْ قِبلِ الكاتب البريطانيّ/الإيرلنديّ إيان ماك إيوان، أجابه إجابةً تستحقُّ التّأمل والتّفكير والنّقاش من قبلِ مجتمعاتنا ودولنا. قال له باختصارٍ: "لن تسألوا أنفسكم أبدًا ماذا سيحدث حين لن تعود إنكلترا موجودة. ليس هناك أيُّ شخص إنكليزيٍّ، أو أميركيٍّ، أو ألمانيٍّ، أو فرنسيٍّ، يمكن له أن يكتب عبارةً كهذه. هذا الإحساس بالفناء تمَّ ربطه بالنّظرة إلى التّاريخ، فالأمم الكبيرة تعتقد أنّها تصنع التّاريخ، وإذا كنت تصنع التاريخ فأنت تأخذ نفسك مأخذًا جديًّا، حتى أنك ستؤلِّه نفسك".

ماذا سيفعلُ بعض العرب بعد عشرات السّنين من الآن، لو وجدوا أوطانهم غير موجودةٍ؟ هل يتركونها وشأنها، ويمضون باحثين عن أوطانٍ بديلةٍ، ربّما تكون أفضل من أوطانهم المفقودة التي عاشوا فيها غرباء لا مواطنين، لا شأن لهمْ بتقرير مسائل مصيريّة متعلّقة بالحكم والإدارة والدّستور وحكم القانونِ؟ هل يتناسون تضحيات آلاف الشُّهداء الذين سقت دماؤهم الأرض، لكي ينبت عليها وطنٌ لهم يُشعرهم بالعزّة والكرامة، ويوفّر لهم العيش الكريم، ويحميهم من كلِّ مخاطر الهجرة، ويوظّف إمكاناتهم لصناعة تاريخٍ جديدٍ للمنطقة العربيّة؟

هل تُتركُ الأوطان إلى مصيرها، كما حدث في بعض البلدان العربيّة في العقدين الأخيرين، حيث بات مواطنوها يشعرون بأنّهم فقدوها وغير قادرين على استعادتها، أو العودة للتّأقلم والعيش فيها، بعد أن جرّبوا معنى أن ينجو الفردُ بحقِّ الحياة فقط، من ضمن كل حقوق المواطنة التي يتمتّعُ بها مواطنون في كثيرٍ من دول العالم، التي تصنع التّاريخ والمواطنة لمواطنيها، وتصنع معهم الحياة بدلًا منْ أن تصنع لهم الموت؟! وشتّانَ بين مواطنين يتأهّبون في أصْباحهم لاستقبال الحياةِ، وأولئكَ الّذين يحملون أكفانهم معهم تحسُّبًا للموت في لحظةٍ غير محسوبةٍ خلال يومهم، نتيجة احتدام الصّراعات والانقسامات.

إنه من الأفضل لمختلف جماعات المجتمعات العربيّة وقبائلها وأحزابها، أنْ تعمل على صناعة تاريخٍ جديدٍ يقوم على عمارة الأوطان بالمواطنة والعدالة والمساواة والحريّة. هذا التّاريخ يتطلّب التحوّل منَ التّنافس في اقتسام الأوطان وتحقيق الغلبة فيها، إلى التّعاون من أجل العيش المشترك فيها، وهذا لا يجعل الوطن هشًّا ضعيفًا قابلًا للفناء، فتتربّصُ بمواطنيه أيُّ فرصةٍ سانحةٍ للخروج منه.

والأوطان حين تصبح قويّةً، يمكنها أن تتغلّب على أعتى التحدّيات. ألم تتمكّن هذه المجتمعاتُ قبل ما يزيد عن السّبعين عامًا منَ التغلّب على الاستعمار، وطرد المستعمرين الذين خُيّلَ لهم أنهم لن يخرجوا لأن هذه المجتمعات ضعيفة، ولن تقدر على مجابهة قوّتهم؟ إذن ما حدث خلال تلك السّنين قابِل للتّكرار، وستستعيد هذه المجتمعات قوّتها، وتبدأ في إعادة البناء بنفسها على هدفٍ مشتركٍ واحدٍ، هو وطنٌ واحدٌ للجميع، وطنٌ واحدٌ يحرسه الجميع.

 

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive