الرجوع

العنوسة والمفاهيم المغلوطة

الإثنين

م ٢٠٢٢/٠٢/٢٨ |

هـ ١٤٤٣/٠٧/٢٧

ظاهرة العنوسة أو "تأخُّر الزواج"، هي ظاهرة اجتماعية مستفحلة عربيًّا. واستنادًا إلى التقرير الصادر عن وكالة الأناضول التركية، هي لا تقتصر على مجتمع بعينه، ولا ترتبط بجنس محدّد، إلا أنه في مجتمعاتنا العربية يَصِمُون المرأة بالعانِس دون الرجل، مع أنّ اللغة العربية لم تتحيّز لجنس على حساب آخر: "عَنَسَتِ الْبِنْتُ: طَالَتْ عُزُوبِيَّتُهَا وَلَمْ تَتَزَوَّجْ. وعَنَسَ الرَّجُلُ: أَسَنَّ ولَمْ يَتَزَوَّجْ".

تبوّأت تونس مرتبة متقدمة من حيث ارتفاع نسبة تأخّر الزواج لدى الجنسين، ويُعزَى ذلك إلى ديناميكية ديمغرافية حديثة، وعدة عوامل مشتركة: كالبطالة والفقر وغلاء المعيشة والمغالاة في المهور ومصاريف الزواج؛ وأخرى مرتبطة بالتطوّر الفكري والمعرفي لدى الفتيات، الناتج من تأثرهنّ بالحركات النِّسوية التحررية الداعية إلى تحقيق الاستقلال الذاتي والمالي للفتيات، والمساواة بين الجنسين في شتى المجالات، وأيضًا ارتفاع نسبة التمدرس، ورغبة الفتيات في الاستمتاع بالحياة بعيدًا عن المسؤوليات المترتبة على الزواج، وهروبًا من الأدوار النمطية التي يفرضها المجتمع على المرأة: "المرأة مكانها المنزل وتربية الأبناء". وهذا أصبح لا يتماشى مع آمال فتيات هذا العصر وطموحاتهنّ، إذ لم يعُد حُلم كلّ فتاة فارسًا على ظهر حصان أبيض، بل تغيّرت الأوليَّات وصِرن يتنافسن في التفوّق الدراسي، والوصول إلى أعلى المناصب وتحقيق المكاسب المادية.

قد يرجع بعضهم عزوف الفتيات عن الزواج إلى تمتّع المرأة التونسية بوافر من الحريات أيضًا، وهذا ما يؤكّده تقرير صادر عن مؤسسة "فريدوم هاوس" لعام 2010، يبيّن أن المرأة التونسية هي أكثر تمتُّعًا بالحرية في العالم العربي. هذه الحرّيات نتاج ثورة في التشريعات، بدايةً من مجلة الأحوال الشخصية والدساتير المتعاقبة والقوانين المتوالية بعدها، والسياسات الهادفة إلى تمكين المرأة، وإرساء مبدأ تكافؤ الفرص بين الجنسين في كافة مناحي الحياة.

رغم المكانة العلمية والعملية والمهنية التي وصلت إليها المرأة، تبقى نظرة المجتمع إلى النساء اللاتي تأخرن في الزواج نظرة نمطية دونية، ويعتبرهنّ "بايْرات" حتى ولو تقلّدن أعلى الوظائف؛ إذ يُعتبر الزواج بالنسبة إلى ذلك المجتمع مستقبل المرأة الأوحد، وأهمَّ من الوظيفة والتحصيل العلمي. فالمرأة في اعتقادهم معيوبة ناقصة دون زوج وأولاد. ولا يزال في مجتمعنا التونسي مَن لا يتقبّل تأجيل بعض الفتيات للزواج إلى ما بعد استكمال مشوارهنّ الدراسي وتأمين مستقبلهن المهني، أو لا يتقبَّل ممارسة حقّهنّ في الإضراب عن الزواج باعتباره قرارًا شخصيًّا وخيارًا مفكَّرًا فيه، وقد يكون مرغوبًا عنه. وهو نفور غير معروفة أسبابُه، وربّما يكون الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي أحد أسباب هذا العزوف.

ظهرت في السنوات القليلة الماضية بضعة أصوات ذات مرجعية إسلامية، تدعو إلى إعادة إقرار قانون تَعدُّد الزوجات الذي جرى إلغاؤه في عام 1956، مع أنه مباحٌ شرعًا. فروَّجَته بوصفه حلًّا للحدّ من أزمة تفاقم ظاهرة تأخّر النساء في الزواج، متناسيةً أن مساوئ التعدّد عديدة، وعديدة جدًّا على الصعيدَيْن الاقتصادي والاجتماعي. وإن افترضنا أنه حلّ من الحلول المطروحة، فإنَّ دراسةً أنتجها مركز "بيو" للدراسات، أقرّت بأن الرجل الذي يتزوّج مرة ثانية يميل إلى النساء الصغريات سنًّا. أما من ناحية الأرقام والإحصائيات، فإن عددًا من الدول العربية التي لا تمنع التعدّد، تُعاني أيضًا تفاقُمَ هذه الظاهرة، إضافة إلى مشاكل مجتمعية أخرى ناتجة منها كالتفكك الأسري وارتفاع نسب الطلاق. وهذا دليل على أن التعدّد ليس حلًّا جذريًّا لمشكل تأخّر الزواج، حيث في استطاعة المقتدر على الزواج مثنى وثلاث ورباع، أن يساعد على تزويج غير المقتدر على تأمين مصاريف الزواج، لقول الرسول الكريم: "مَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ" (صحيح البخاري).

لا شكّ في أن الزواج مؤسسة مهمّة، باعتبار أنها بالمفهوم الديني سُنَّة كونية ووصية إلهية وأحد أسباب خلق الإنسان، حيث إن الأديان الإبراهيمية تُولي مسألة الزواج أهمية كبرى. ففي القرآن الكريم يقول الله عزّ وجلّ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. وفي الديانة المسيحية، مؤسسة الزواج هي بمنزلة "الكنيسة الصغيرة"، وسرٌّ من الأسرار السبعة المقدسة. ومع ذلك، لا يمكننا حصر دور المرأة بوصفها زوجة أو أمًّا فقط، بل يجب اعتبار ذلك واحدًا من الأدوار التي قد تلعبها في الحياة. فأدوارها متعدّدة، تشمل جميع المجالات والقطاعات، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن ينتقص عدمُ زواجها من أهمية أدوارها الأخرى، أو من كونها كائنًا بشريًّا مكتمل الإنسانية، فاعلًا وغير مفعول به. فالحياة نافذة تنفتح على خيارات عديدة، تُمكّنها من تحقيق الغاية من الوجود، متخطية الحواجز والحدود. 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive