الرجوع

النكتة البناءة والنكتة الهدامة

الأربعاء

م ٢٠٢٠/٠٧/٠١ |

هـ ١٤٤١/١١/١١

إطلاق النِّكات مِيزة بشريّة، رافقَت الشعوب على مدى العصور. وَحْدهُم البَشَر قادرون على الضحك لسبب فِكريّ كالنُّكتة أو الطُّرفة، ووَحْدهم قادرون على تحويل الألم إلى سُخريَّة، والغضب إلى ضحك وقهقهة. لقد أثبَت علمُ الاجتماع وعلم النّفس أهميّة الضّحك، حيث استُعمل أحيانًا بوصفه علاجًا. وقد سبَقهما المسرح، حيث قدَّم المواقف الطّريفة منذ بدايته، وبعده التلفزيون والسينما. فتَخطَّفُوا الضحكات من المواقف الطّريفة، والحوارات المبنيّة على سوء الفهم بين الممثِّلين، بتواطؤ مع المشاهدين. أيضًا لا يَخفَى أن الرسم والشِّعر والنثر قد سبقوا الجميع، وأسَّسوا الأدب الساخر.

اليوم، ومع مِنصّات التواصل الاجتماعي، أصبحت إمكانيّة إطلاق النِّكات على كافّة الأمور في متناول الجميع. فأيُّ حدثٍ، وأيُّ أزمة، هُمَا فرصةٌ للنّفوس الخلّاقة لكي تُطلق نكتة سريعة، حيث تنتشر بثَوانٍ كالنار في الهشيم، وتَصل إلى كل أصقاع الأرض، لِيتشاركها المُستخدِمون/ات دون كلل. وبعضهم -لحُسن حظِّ مجتمعاتنا- يتمتّع بـ”روح النّكتة”، وبالذكاء.

إنَّ التَّنكِيت علاج المجتمعات، كما الضّحك. والنُّكتة أداة للنجاة والعيش في عالَم مُظلم أحيانًا. إذًا، السُّخريَّة أداة بالمُطلق، ابتدعها البشر. ولا يزالون يلجأون إليها، لحاجتهم إليها. فلا يجوز أن تُحاكَم السّخريَّةُ أو النّكتة على أنّها خطأ، أو عملٌ سيِّئ بالمُطلق، لأنّها وسيلة مُبدِعة، وحاجة بشريّة. ولكن، يبقى من الضروري تحديد مضمون العمل السّاخر، أو النُّكتة. فالمضمون خِيارٌ واعٍ، عن سابق تَصوُّر وتصميم، ويُمكن دائمًا مُساءلة النيّة عن المضمون.

أيُّ نكتة هي بنّاءة؟ وأيُّ نكتة هي هدّامة؟

– النكتة التي تَخطف القهقهات، دون أنْ تَمسّ كرامة أي مجموعة بشريّة، أو تُهين كرامة أي فرد لأي سبب، كلون البشرة أو الجندر أو الميول أو الدين أو الثقافة أو المُعتقد – هي نكتة بنّاءة.

– النكتة الذكيّة، الفكريّة، المُركّبة بفِكر ذكيّ، لا تَستعمل الإهانة، ولا تَمسّ كرامة أي مجموعة يعتبرها المتلقّي مُختلفة عنه، ولا تجعل من الضحكة بابًا لتثبيت صور نمطيّة اجتماعيّة.

– النكتة العنصريّة أو الجندريّة أو العصبيّة، أو النكتة التي لا يُمكنها الإضحاك إلّا من خلال استغلال صور نمطيّة معيّنة، أو إهانة مجموعة مُستضعَفة ما – هي نكتة هدّامة لأيِّ إمكانيّة تغيير مُجتمع ما أو تطويره، وهدّامة لأي إمكانيّة بناء جسور بين البشر، وهدّامة للعلاقات في البيت الواحد أحيانًا.

بالطبع، ليس كلّ نوع من النكات هو مجرَّد، أو بريء، أو وليد اللحظة. فالتنكيت المستمرّ والمُمَنهج على النساء ليس بريئًا، ويساهم بشكل مباشر في استمرار خطاب الكراهية، وجرائم الشرف، وختان البنات، والعنف المنزلي، وعدم وصول قدرات نسائية هائلة إلى مواقع مهمّة، في العديد من دول العالم. أيضًا التنكيت المستمر والمُمَنهج على أصحاب البشرة السمراء، ليس بريئًا، ويساهم في استمرار خطاب الكراهية ضدّ أي إنسان بشَرَتُه سوداء، ويساهم في ظلمهم في المَحاكم، أو تحت نِعال الشرطة، أو داخل البيوت خلال عملهم المنزلي في العديد من دول العالم.

لِنسألْ سكّان حمص في سوريا، أَإِذا كانت النِّكات عنهم تُضحكهم، أو البلجيكيين أو البرتغاليين في أوروبا، حيث هم موضوع السُّخرية الطـّبقيّة والفكريّة وغيرها! ولْنتخيّل أنكم أنتم موضوع النّكتة العنصرية، أو الجندريّة، أو الثقافيّة. فهل تضحكون، أو تَقبَلون؟

لا بدّ من الإشارة إلى أن خطاب الكراهية -الذي تُعاقِب عليه القوانين الدوليّة والمحليّة تحت مسميات مختلفة-، يبدأ أحيانًا بنكات مُمَنهجة. ولائحة الأمثلة تَطُول، ولن أُطيل في ذكرها. ولكن، لا بدّ من السؤال: “هل يجب رسم حدود للنُّكتة، أو فرض رقابة عليها؟”. طبعًا كلَّا. فحريّة التعبير حقّ مقدَّس، ويشمل السخريَّةَ والنّكات. أمَّا النيّة، فلا مجال لتحديدها علنًا. لذا، لا يمكن إيقاف النّكتة الهدّامة إلّا بالمزيد من حريّة التعبير والنقاش، والفكر المُستنير المَبنيِّ على أُفق أَوسع من الآنيّة.

لِأسْألْ نفسي كل مرّة: هل هذه النُّكتة التي أريدُ إطلاقَها، مسيئةٌ لقُدسيّة الكينونة البشريّة لفردٍ ما، أو لمجموعةٍ ما؟ وهل تُثَبِّت صورةً نمطيّة سائدة؟ إذن، لن أُطلقها، وسأجد طريقة أذكى لإيصال الضحكة. أيضًا لِأَسْألْ: هل تلقَّيتُ نكتةً مُسيئة أو عنصريّة أو طبقيّة أو جندريّة، تُثبّت صورةً نمطيّة سائدة؟ إذن، لن أُعيد نشرها. ستتوقَّف عندي، وسأُغلق الباب عليها. أيضًا لن أُشارك في ضحكة مسمومة، حتى ولو كنتُ وحيدًا(ة) في اتِّخاذ هذا الموقف، لأنّه اعتراضٌ ضميريّ، وموقفٌ يجعلني أرى كرامتي وكرامة الآخر بالتساوي.

فَلْنَضحك، ومِن القلب. ولْنَضحك، لنحيا ونستمرّ. ولْنَضحك معًا. ولكن، ليس على سحق كرامة أحد.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive