الرجوع

عن التبنّي

الخميس

م ٢٠١٩/٠٥/٢٣ |

هـ ١٤٤٠/٠٩/١٩

أفكار كثيرة خطرت ببالي بعد متابعة فِلْمٍ غربيّ، يتحدّث بقصّة طفل واقعيّة مِن عائلة مُعدِمة، ضاعَ في شوارع إحدى المدن المكتظّة في الهند، ليتبنّاهُ زوجان أستراليّان، وينقلاه مِن براثن الشارع وتربُّص عصابات خطف الأطفال -لاستغلالهم في أعمال لاأخلاقيّة-، أو عصابات بيْعِ الأعضاء، أو مكبّات القمامة للبحث عن الطعام، إلى بيْتٍ آمن في إحدى مُدن أستراليا، حيث قدم له والداه بالتبني الهدوء والسلام والحياة الكريمة.

استمرّت الأفكار في الهَطْل عليّ بعد أنْ أنهيْتُ الفِلْمَ المؤثّر، وإذ بخبَرٍ يمرُّ أمامي في إحدى الصحف، عن وفاة زوجيْنِ في إحدى الدول العربيّة، لابتلاعهما أعشابًا بهدف علاج العقم. فالزوجان -كما يقول الخبر- لم يصِلا إلى مرحلة تعريض حياتهما للخطر، إلّا بعد اليأس مِن قدرتهما على الإنجاب، وربّما -وكما هو حالُ عدد كبير مِن الأُسَر العربيّة- بعد مُرورهما بتجارِبَ طبّيّة مُضْنية ومستنزِفة للحصول على طفل، حيث عجز الطّبّ عن إيجاد حلولٍ، فيجري اللجوء إلى الأعشاب والمشعوذين والدجّالين.

حاولْتُ المقارنة بين الحالتيْن. فالعائلة الأولى أنقذَتْ طفلًا مِن الموت، وحصلت على ابنٍ. والزوجان الآخران خسِرا حياتَهما بسبب علاجٍ زائف. العائلة الأولى بَنَتْ نفسها وساهمت في إعمار الأرض، والثانية هُدمت قبل أنْ تبدأ.

لا تقتصر الرغبة في التبنّي على الزوجيْن اليائسيْن مِن الإنجاب. فهناك مِن الأزواج مَن قرّرا أنْ يعيشا حياتهما بطريقة مختلفة، غيرَ آبِهَينِ بكاتالوجات المجتمع، وقرّرا ألّا يُنجبا أطفالًا. فالعالَم -كما يقولون- مملوء بالأطفال المهمَلين. لقد أدمى هذَين الزَّوجَين منظرُ طفلٍ لم يتجاوزِ الثالثةَ، يَنبُش في حاوية القمامة بحْثًا عن لُقمة تسدُّ جوعه. فقرّرا أنْ يكونا له الأب والأُمّ، لِيحظى في بيتهم بالدفْءِ واللقمة الهنيّة والاهتمام والرعاية، لكنّ رغبَتَهما قُوبلَت بالرفض!

هناك مِن النساء مَن لم يُكتبْ لهنَّ الإنجاب بعدُ؛ لأنّهنّ لم يتزوّجْنَ، أو لم يجدْنَ الشريك المناسب. فوجدْنَ أنّ مِن الأنانيّة أنْ تتزوّج الواحدة منهُنَّ رجلًا لا تُحبُّه ولا ترغبُ في العيش معَه، فقط مِن أجل الحصول على طفل. هنَّ أنفسهُنَّ تتدفَّقُ في قلوبهنَّ أنهارٌ مِن الحنان، ولديهِنَّ القدرة المادّيّة على تربية طفل والتكفُّل به مادّيًّا، والقدرة المعنويّة على العطاء والحُبّ. يُفكِّرْنَ في تبنّي طفل واحتوائه؛ إذ عدد الأطفال الذين بلا مأوى في ازدياد، ومراكز إيواء الأطفال تُعاني التكدُّس وسوء الخدمات، والحروب في المنطقة تَرَكَتْ خلفها اليتيم والفقير والمُشرّد.

في حين يتزايد عدد النساء الراغبات في التبنّي، وعدد الأزواج الذين استُنزفوا ماليًّا ومعنويًّا وصحّيًّا لإنجاب طفل، هناك مِن الأشرار مَن يتزوَّجُ ويُنجب ويرمي أطفاله في الشارع، ويُعنِّفهم ويُجبرُهم على التسوّل. أهل ليس لديهم مِن الأهلية سوى الاسم، تجرَّدَوا مِن معانيها، وليس لأولادهم معَهم أيّ مستقبل مُشرق. فيتمنّى الطفل المعنَّف أنْ تحميَه جهةٌ حكوميّةٌ مِن بطشهم، وأنْ تُؤمَّنَ له عائلة أُخرى، يحظى في حضنها بالأمْن والأمان والسلام.

كلّ ما ذكرْتُه سابقًا نماذجُ من بيوتٍ عربيّةٍ، يبقى الحال فيها على ما هو عليه. قلوبٌ قادرةٌ على العطاء، يتدفّقُ منها حنانٌ ويتبعثر، دون أنْ يستفيد منها محتاج. وأطفال مُهمَلونَ جوعى، يعيشون في أجواء خالية مِن العطف والحُبّ، وفي أحيان كثيرة خطرة، دون حلول تُؤمِّنُ للأطراف جميعِها السّكِينة.

ما إنْ تَذكُر كلمةُ "تَبَنٍّ"، حتى ينهالَ عليك سيلٌ مِن الرُّدود المُحذّرة: "التبنّي حرام". جملةٌ يقولُها أحدُهم عادةً بلا معرفة ولا دِراية. فكيف يكون إنقاذ طفل مِن براثن الشارع حرامًا؟! وكيف يكون تأمين سرير دافئ له ولُقمة نظيفة ويد تمسح على جبينه، بدلًا مِن النوم في العراء أو في بيوت يُلوِّثُها العنفُ والأذى حرامًا؟!

هناك حلولٌ يُمكنُ أنْ تضعَها الحكومات لمنع اختلاط الأنساب، كأنْ يُضاف اسمُ المتبنَّى بعد اسم العائلة الأصلي. هناك حلول كثيرة إنْ كانت النّيّة سليمةً، والرغبةُ موجودة. ليس دَوْرُنا أنْ نضعها، بل المُشرِّعون والخبراء. لكنَّ دَوْرَنا أنْ نُنبِّهَ على أنّ أطفالَ اليوم المُهمَلينَ، هم أمانة في رقبة المجتمع، وما يحصل لهم يَعنينا، وجميعنا نتحمل مسؤوليّته. فلماذا يُفرض عليهم عيشة الضَّنْك والمخاطر واليُتم، وهناك أبواب أخرى موجودة يُمكن طَرْقُها، وقد تتحوّل حياتهم خلفَها إلى جنّة، وقد تملأُ حياةَ رجال ونساء كثيرين، لديهم الكثير ليُقدِّموه؟!

لن نَعْدم الحلول إذا كان الهدف الأول لنا هو الرحمة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive