الرجوع

متى تلجأ المرأة إلى التَّطرُّف؟

الخميس

م ٢٠١٩/١٠/١٧ |

هـ ١٤٤١/٠٢/١٨

كنتُ في بداية العشرينيّات من عمري، عندما دعتْني إحدى الجارات إلى حضور درس في الدِّين، تُعطيه -حسب قولها- داعيةٌ معروفة في المنطقة. سألْتُها في البداية عن الحضور، وعندما تأكّدَ لدَيّ أنّ جارتي الطّبيبة ستحضر أيضًا وافقْتُ فورًا؛ لِما كُنتُ أُكنُّ لها من احترام. كانَ مِن المفترَض أنْ يكون الدَّرس في تجويد القرآن الكريم فقط، بمعنى ألّا يَدخل إطلاقًا في تفاصيل الفتوى الدِّينيّة؛ مِن باب عدم الاختصاص، إلّا أنّ ما حصل كان مختلفًا تمامًا. فما إنْ قرأَتِ "الدَّاعية" آيتَين مِن الذِّكر الحكيم حتّى فتحَتْ باب الفتوى على مِصراعيه. ولمّا كانت الفكرة مِن الآيات المقروءة حول العلاقة بغير المُسْلم، فقد أمطرَتِ الحاضراتُ "الدَّاعية" بالأسئلة، وما كان منها إلّا أنْ أجابت بوجوب صكِّ أبوابنا أمام مَن يختلف عنّا في الدِّين بعدَ أنْ ندعوَه دعوة مباشرة في الدُّخول فيه ويرفضها. أصابني الذُّهول وأنا أطالع الطَّبيبة وهي متقبّلة للفكرة لا تستهجنها، فانتفضْتُ مُذكّرةً الشَّيخةَ بجار الرَّسول اليهوديّ الذي ما انفكّ يزوره، كنتُ أنا وحدي المعترضةَ من بين كلّ الحاضرات، اعتراضي لم يُقابَلْ بالرّضا من الشَّيخة الَّتي علا صوتها مُحاولةً تبرير فتواها، فما كان منّي سوى أنْ قاطعْتُها سائلةً عن الجامعة الَّتي تخرَّجتْ منها في العلوم الفقهيّة، لتخبرني بكلّ ثقةٍ أنّها تركَتِ المَدرسة في المرحلة الابتدائيّة، ولكنّها تتَلْمذت على يدِ "شيوخ" كما قالت. هُنا أدركْتُ قوّة هذا السِّحر الَّذي يجعل النِّساء تتهافت على التَّطرُّف في كثير من البلدان، أدركْتُ هذه السُّلطة والقوّة التي يُعطيها الحديث بِاسم الدِّين، لولاه لما مَلكَتْ امرأة لم تُكمل تعليمها الابتدائيّ عقول طبيبةٍ ومهندسة بدَتْ كلٌّ منهنَّ تهزُّ رأسها واثقة ثقة عمياء بما تُمليه امرأة لا تعرف أبسط البديهيّات في العلم والمعرفة، لا أمرَ آخر سيُعطيها يومًا ما هذه القدرة على التَّأثير، وهذا الاحترام الذي تلقَّاه في مجالس السَّيّدات، فيعطى لها صدر الجلسة، وكأنّها أتَتْ بما لم يأتِ به أحد. للمتحدّث بِاسم الدِّين هالةٌ تكاد تصل للقُدسيّة في كثير من الأحيان، كنتُ أرى النِّساء تتهافت على رضا هذه السَّيّدة لدرجة أنّ بعضهنَّ كُنَّ يُقبّلْنَ يدها عند السلام، في تقدير لا تحظى به العالمة أو المخترعة، تقدير لا يحتاج لشهادات عالية وسهر ليالٍ في البحوث العلميّة والفقهيّة، وإنْ كان يحتاج للكثير مِن الفِطنة والذَّكاء للاستمرار. كانتِ السيّدة تنتقي كلماتها بعناية، وتَعرف تمامًا أنّ معظم الحاضرات يحتجْنَ لمُسكّنات لأوجاع الحياة، فالطَّبيبة تركَتْ عملها منذ فترة طويلة؛ لأنّ زوجها خيَّرَها بين العمل والأولاد، عِلمًا أنّه تزوَّجَها عاملة، كانتْ تموت في اليوم ألفَ مرّةٍ وهي تعي أنّ حلمها بالنَّجاح الشَّخصيّ بابٌ مهدّدٌ بالإغلاق للأبد، كانتْ تُريد أنْ تسمع ما يُسكِّنُ ألمها فيشعرها أنّها مجرّد كرةٍ تتقاذفها أمواج القدر إلى الوجهة الَّتي يريد، امرأة أخرى كانتْ تتعرّض للعنف من زوجها، وأخرى لديها مشاكل عائليَّة واضحة، كثيرات كُنَّ بحاجة لمستشارة نفسيّة أو أُسريّة أو تربويّة لا لفتاوى، وكلمات مثل: قضاء وقدر، وابتلاء مِن الله، وصبر مأجور هو ما أتَتِ النِّسوة لتسمعه في الجلسة. كثيرٌ مِن النِّساء لا تميل للوم نفسِها على اختياراتها، ولا تميل لمراجعة نفسها على تصرُّفاتها، والسيّدة تُعطيها ما تُحبّ، تُعطيها المُسكِّن فلا تنتفض لتحسين حالها ولا تُغيّر من أطباعها، امرأة تسرد القصص الوهميّة والخزعبلات التي تُؤيّد فكرتها وتدعمها. هذا الجيل من الدَّاعيات للتطرُّف كان له اليد العليا في زرع الكراهيَة والجهل في عقول السَّيّدات ومنهنّ لأبنائهنّ، فنشأَتْ لدينا أجيالٌ مِن الشَّباب الّتي تُروِّجُ صورة "بطاطا" تحمل لفظ الجلالة، وتنشر رسائل الواتس أب الَّتي إنْ لم تنشُرْها فاعرفْ أنّ الشَّيطان قد منعك. هذه المُسكّنات لن يُعطيَها فقيه حقيقيّ في الدِّين يؤْمن بالعلم، فرجُل الدِّين الفقيه لا يُؤْمن بالخزعبلات ولا يُروّج لها، بل يدعو للعمل والبناء وحسن الاختيارات، وهذا الَّذي لا تُريد أنْ تسمعه الكثير مِن النِّساء بل والرِّجال في عالمنا العربيّ. ولمّا باتَتِ السَّاحة فارغةً مِن فكرٍ تنويريّ يُؤْمن باقتران الدِّين معَ العلم، مالَ الكثير إلى صفِّ المُتطرّفين؛ خوفًا مِن السُّقوط في الابتذال والسَّطحيّة. لقد اقتاتَ التَّطرُّف العنيف بصورته الحاليَّة على الخزعبلات والحجج الواهية والمقارنة بالابتذال، اليوم وهو يشهق في صورته الحاليّة أنفاسه الأخيرة يجب ضمان دعم رجال ونساء الدِّين التَّنويريّين الَّذين يُؤْمنون بالعلم والمعرفة مع التأكيد على أهمِّيَّة الإختصاص وإرجاع كل أمر للمختصِّين فيه، دعم هؤلاء الذين يُروِّجون لإعمار الأرض فيرجعون كلَّ سؤال في العلم للعلماء وفي الطِّبِّ للأطبّاء، هؤلاء يجب أنْ تُعطى لهم المنابر والشَّاشات، ما نحتاجه هو الحديث عن الجوانب الأخلاقيّة والقيم الرُّوحيَّة لِلدّين، نحتاج لبناء إنسان مُتسامح مُتصالح معَ ذاته أوّلًا ثمّ معَ الآخرين.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive