الرجوع

أفغانستان المعمّمة بالتاريخ

الخميس

م ٢٠٢١/٠٩/١٦ |

هـ ١٤٤٣/٠٢/٠٩

التاريخ ليس في المتحف، لكن المتحف فيه بصمات من التاريخ. يَعرف العالَم ما يَعرفه عن أفغانستان؛ تلك الصور التي تأتي منذ عشرين عامًا وأكثر. بلاد كلها بالنسبة إلى "الميديا" عبارة عن متحف متروك، تضع فيها الأخيرةُ سجالاتِ الحاضر تماثيلَ لتصوراتها عن الإسلام والمسلمين، وفق حسابات الغازين والمنتصرين، وبِاسم المهزومين وضدّهم. لا مكان للنساء في الصور التي انتشرت عن البلاد ذات الطبيعة القاسية، ولا مكان للماضي أيضًا. مجرد رجال يخرجون من الجبال. هذا ما يقوله الإعلام اليوم عن أفغانستان. تأتي باعتبارها صوَرًا نهائية، تأتي من مكانٍ يبدو وكأنه خارج هذا العالم أو في آخره. 

هناك، جنوب كابول، يستريح متحف أفغانستان الحقيقي، في كنف جبال "هندو كوش" البِيض، بفعل تساقط الثلوج الذي لم يتوقف أو ينقطع. يبدو المتحف معمَّمًا بالجبال، وتبدو الجبال نفسها معمَّمة بالتاريخ. شيء لا يمكن إنكاره بسهولة، مثل الوعي تمامًا. تعود الحياة المخبَّأة في المتحف الأول إلى أكثر من خمسين ألفَ عامٍ. المفارقة أن هذا المتحف هو أحدُ أقدم المتاحف الرسمية في الشرق، ويعود تأسيسه إلى بدايات القرن الماضي، حيث شُيّد سنة 1919 في قصر "باغ بالا". وكان يحوي ما تحويه المتاحف عادةً من وثائق وتماثيل وأشياء، نجَت من ميل المستقبل إلى النسيان، دليلًا على سير الحياة في الماضي من دون قلق، ودليلًا على التنوع في البلاد التي يعتقد كثيرون اليوم أنها وُجدت هكذا قاحلة، وأن هؤلاء المسلّحين يستطيعون إغلاق أبواب التاريخ من دون أن يسألهم أحد، مثلما اعتقدَت الحملات الاستعمارية سابقًا أنه في إمكانها خلع هذه الأبواب ونقلها إلى مكان آخر. لا يلغي ذلك أن الحفريات الفرنسية أسهمت في بعثاتها (في عشرينيات القرن الماضي) في إضافة التحف إليه، من دون أن يمحي ذلك الأسباب الحقيقية للهوس الكولونيالي الدنيء بالتلاعب بتاريخ المستعمرات. بقيت الأبواب في مكانها، تقود المؤرخين إلى الأجوبة، بدلًا من أن تقودهم إلى الفراغ في المتاحف الكولونيالية الخالية من الروح.

الأجوبة ممكنة دائمًا. في القرن الثالث الميلادي -بحسب ما تشير إليه الحفريات- على نحوٍ لا يدع مجالًا للشك، كان الأفغان مثل جيرانهم البعيدين، الذين ابتعدوا، يدينون بالبوذية. منذ أوائل القرن الثاني قبل الميلاد وإلى آخره، كانت البوذية دينًا مهيمنًا في أفغانستان -بحسب كثير من الدارسين-، تحديدًا في عهد "أشوكا" الإمبراطور، بحسب مؤرخي تاريخ الهند الأوائل، الذي كان شخصًا مثيرًا للاهتمام في حد ذاته، لكونه اعتنق الديانة البوذية لشدة ما هالته الحروب، من دون أن يتخلى عن معتقداته الهندوسية تمامًا. 

هناك في "وادي باميان" السحيق في أفغانستان، بقي تجويف في الصخر يقاوم الوقت، بعد أنْ هدم المسلحون تمثالَين عملاقَين لبوذا، في حين نجَت تماثيل صغيرة خُبِّئت على عجل في المتحف عينه. يَصعب اليوم على كثيرين التصديق بأن أفغانستان في أزمنة بعيدة، كانت بلادًا متعددة. منذ أكثر من ألف عام، بقيت البوذية دينًا موجودًا في أفغانستان، قبل أن يأتي لاحقًا "بهرزاد" أيضًا، ويصنع لوحته الشهيرة التي حملت عنوان "إغراء يوسف". بعيدًا عن الوديان التي نمَت فيها البوذية وتطورت في البلاد، عاد الفنان الفارسي كمال الدين بهرزاد إلى الآيات 23، و24، و25 من سورة يوسف، وترك مُنَمنمته الشهيرة.

بهرزاد هو أحد وارثي هذا التاريخ الطويل، تاريخ الامتداد بالاتجاه الآسيوي نحو الهند، وتاريخ السلالة الغزنوية المسلمة، التي حكمت بلاد فارس في القرنين العاشر والحادي عشر، ووصلت إلى شبه القارة الهندية. أفغانستان هي المكان الذي يجمع كل هذا (البعد الجغرافي الآسيوي، والميل الطبيعي نحو الهند)، إضافة إلى الثقافتين العظيمتين: الفارسية والتركية، وحضورهما القوي في المكان. لا يمكن أن يَجمع متحف واحد كل الآثار، لكن القطع المتنوعة فيه تُمثِّل لنا الأزمنة: الأسلحة تَذهب بنا إلى الحروب والغزوات والفتوحات، وإلى تعاقُب الحكام والحضارات. والنقوش تُجسِّد تاريخ الفنون، وعلاقة الفن بالشعوب التي انتزع الاستعمار حصتها في بناء الهوية المعاصرة. الزخارف المزيَّنة، تُصوِّر شغف العابرين بالمكان، ورحابة الجبال مع قسوتها. أيضًا تُشير النقود المحفورة بصعوبة إلى تاريخ الطبقات، وإلى أهواء السلاطين.

نجد في أفغانستان مخلَّفات تعود إلى غزوات الإسكندر المقدوني، من القرن الميلادي الرابع، ونجد أيضًا آثارًا إسلامية، تدل على أن التاريخ لا ينتهي، وأن الحضارات لا تتصارع، بل تمشي في نهر واحد، هو التاريخ. وليس هذا تاريخًا مقتضبًا لأفغانستان الشاسعة، بل هو أول الطريق إليه، حيث يقتضي الأمر الاعتراف بالتعددية في الماضي، لكي يتسنى الاعتراف بها في الحاضر. سنجد في أفغانستان متحفًا هائلًا، هو أفغانستان نفسها. البلاد التي لا يمكن اكتشافها في متحف، أو عبر تجويف، أو الاكتفاء بصور تنقلها وكالات الأنباء. أفغانستان مثل هذا الشرق الرهيب، روح معلَّق في التاريخ.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive