الرجوع

حقوق حسب الأهواء

الخميس

م ٢٠٢١/١١/٠٤ |

هـ ١٤٤٣/٠٣/٢٩

جملة جميلة أنهت بها صديقتي "تيريزا" المصرية المقيمة في الولايات المتحدة، نقاشًا فكريًّا دار بيننا قبل أيام، تَحدَّثنا فيه بحال مجتمعاتنا العربية، ومقاومتها في كثير من الأحيان لأي تغيير حتى ولو كان إيجابيًّا واضحًا كوضوح الشمس. فيستخدم بعضهم سلاح المقارنات لتبرير التخلف أو الامتهان أو العادات السيئة في مجتمعهم، والتي تُظهر مثلًا: نقص الحريات الشخصية وحريات الفكر والإبداع، وزواج القاصرات، والعنف ضد المرأة، وضرب الأطفال؛ حيث يأتون في المقابل بأمثلة من دول أخرى فيها عنف أو امتهان للمرأة، ويقولون لك: "انظر إلى ما يحصل هناك، لسنا وحدنا في هذا الأمر"! 

إنَّ حالنا كما قالت لي صديقتي في جملتها الخالدة: "كمَن تخبره أن بيتنا ملوث بالغبار والأتربة، وأن صحتنا متعبة وعلينا أن ننظف البيت لكي نعيش حياة آدمية، ثم يفاجئك بقوله: إن هناك بيوتًا أخرى ملوثة ومتسخة".

هذه المقارنات العقيمة نجدها دائمًا في مجتمعات لا تعي معنى الحقوق بشموليتها، فنراها مثلًا: تتفاعل بحزم مع شابة أوضَحَت أنها استُثنيت من العمل في محطة تلفزيونية بسبب ارتدائها الحجاب. وفي المقابل، نجد إدارة إحدى المدارس تعتبر أنَّه من حقِّها رفض تعيين معلمة لأنها غير محجَّبة. هذا الفرد في تلك المجتمعات ينتفض عندما تُمَسُّ معتقداته فقط، ولا يأبه بحريات الآخرين، بل ربما يبرر تصرف إدارة تلك المدرسة ويروِّجه. والمضحك أن هؤلاء الأفراد يقفون للناس بالمرصاد. فنجدهم يثورون رافعين/ات جملة: "أين الحقوقيون مِن هذه القضية؟ وأين النسويات من هذه الحالة؟"، في حين يخبرنا الواقع أنَّ كلًّا من الحقوقيين والنسويات موجودون دائمًا للمطالبة بحق كل مظلوم. أمّا الغائب الذي لا يَظهر إلا إنْ مسَّه ظلم أو استُهدفت معتقداته، فهو هذا الفرد الضعيف البصيرة، المصاب بداء التميز الوهمي، الذي جُلُّ ما يهمه المعتقد وليس البشر.

قد ينعتك هذا الفرد بألفاظ خارجة، لمجرد أنك عبَّرت عن وجهة نظرك تجاه أمر يعتبره مُسَلَّمًا به. نقاش مُسلَّماته أمرٌ لا يقوى عليه، ولا يملك مفاتيحه. لهذا، فهو يهاجم فورًا، ويتخلى عن وقاره الذي حاول جاهدًا أن يصطنعه سابقًا، فيخبرك بأنك جاهل، وعليك التزود بالمعلومات قبل أن تَدخل في نقاش فكري معه، وهو لا يعلم أن من حقك أن ترفض مسلّماته كلها، وأن من حقك أن تعلن صراحةً أفكارَك وآراءَك، وأن هذا الحق مكفول بقوانين حقوق الإنسان. فيبدو ذلك الفرد أحيانًا أنه مُحامي الدفاع عنها، دون أن يعرف أن الهدف من هذه الحقوق هو حماية الفرد نفسه، الإنسان نفسه، وليس الأفكار أو المعتقدات.

الغريب أن هذا المغرَم بالمقارنات، لا يلجأ إليها إلا تحقيقًا لمصلحته فقط، وتبعًا لأهوائه؛ ويبتعد عن المقارنة عندما يكون الأمر غير متعلق بمصلحته، كأن يبتعد مثلًا عن المقارنة عند الحديث بأثر الحريات الشخصية وحرية الفكر والمعتقد في الأفراد والمجتمع. إنه يريد أن يأخذ من الديمقراطية ديمقراطية الصناديق فقط، ولكنْ على أن يبقى ديكتاتورًا في بيته، وأن يبقى مجتمعُه وصيًّا على أفراده وعقولهم وفكرهم وتصرفاتهم. فنجده ينشر صور الوزير الذي يذهب إلى عمله بالدراجة في بلد غربي، لكنه يختفي تمامًا عندما يَظهر له أثر تحرُّر هذا الوزير الفكري ودعْمِه للحريات. يريد تحرُّرًا مشروطًا بالاحتفاظ بديكتاتورية المجتمع الأبوي، الذي جرى تأسيسه أصلًا لنسف أُسُس الحرية، ودعم الاستبداد وتثبيت بقائه.

هذا المهووس بالمقارنات، يُعيب على الآخرين عدم الاهتمام بقضايا حقوقية تمسُّه أو تمسُّ فهمه لدينه، لكنه لا يحرك ساكنًا أمام أي قضية حقوقية ليس طرفًا فيها. فالحقوق بالنسبة إليه هي حقوقه الخاصة به، أو حقوق من يشترك معهم في الديانة فقط؛ وأمّا العالم فكُلُّه ظالم، وهو المظلوم دائمًا، المستهدَف من باقي الكوكب، الذي تكالبت عليه الأمم ربما خوفًا من عبقريته أو إنجازاته، التي كادت تَتفجَّر لولا هذه الحرب الكونية ضدَّه.

على الفرد العربي أن يعي أنه صاحب المصلحة الأولى في تنظيف بيته من الغبار والأتربة، وأنه في مقابل كل باب للحرية والعدالة يُعطَى مفتاحه، عليه إغلاق باب يدخل منه الظلم، حتى لو كان هو وحده المستفيد منه. عندما نسمو فوق مصالحنا الشخصية، وعندما نفكر في الآخرين كما نفكر في أنفسنا، ندفن وَقْتَذاك الديكتاتورية المحبَّبة في داخلنا، والتي نستقي منها الشعور بالعظمة والثقة الفارغة، وعندها فقط يحق لنا المطالبة بالديمقراطية والعدالة والحرية.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive