الرجوع

رمضان مبارك في مصر

الثلاثاء

م ٢٠٢١/٠٥/٠٤ |

هـ ١٤٤٢/٠٩/٢٣

أيقظ رمضان في نفسي هذا العام الحنين إلى رمضان زمان، رمضان قبل أكثر من ثلاثة عقود، حيث بدأت الصيام وأنا في  الثامنة من عمري، وقررتُ أن أخوض أول معركة إرادة في حياتي. لم يكن الأمر سهلًا، ولم يكن الصيام مفروضًا عليَّ في ذلك العمر، لكني أردتُ أن أُثْبت لمن حولي أنني أستطيع ذلك. لا أزالُ أذكُر هذا اليوم جيدًا، عطش وجوع وإرهاق، وأنا ممدَّدة على الأريكة أُتابع برامج الطبخ وصور الطعام الشهي وأعدُّ الدقائق. كل هذا العطش والتعب انتهى مع أول قطرة ماء باردة وصلَت إلى حلقي بعد الإفطار، قطرة الماء التي لم تكن يومًا بهذه الأهمية، كانت حينها قطرة الحياة التي أنعشَت جسدي المنهك من العطش. تلك القطرة بيَّنَت لي أول مرة قيمة النعم المتوافرة، التي تستوجب شكر الله عليها.

تساءلتُ بعد ذلك اليوم الصعب عن سبب الصوم، وقد سمعتُ من الأجوبة الكثير، لكنْ كلما تَقدَّم بي العمر، فهمتُ معنى العبادات بشكل أكثر عمقًا، وأدركتُ أن بعض الإجابات الجاهزة عن تساؤلات الطفولة لا تُسمن ولا تُغْني مِن جوع. وَحْدَك أنت مَن تَصنع أجوبتك، أنت بتجاربك وتأملاتك مَن تملك القدرة على الفهم. غالبًا ما كنتُ أتلقَّى إجابة تُفِيد أن السبب في فرض الصيام في شهر رمضان هو أن نَشعر بالفقراء ومعاناتهم. هذه الإجابة لم تقنعني يومًا، فإنْ كان سبب صيامنا الإحساس بالفقراء، فلماذا يصوم الفقراء إذًا؟ ولماذا لا نرسل إليهم الطعام بدلًا من هذا العذاب؟ وكيف نحس بالفقراء ونحن نستهلك أضعاف ما نستهلكه في الأيام العادية من الطعام والحلويات؟

الصيام حسبما أدركتُ معناه من تجربتي هو التدرب على الحياة، والصبر هو مفتاح الحياة وأهم متطلباتها. ففي الصيام أنت تُدرب الإرادة على معاركها الصعبة القادمة، وفي حياتك يجب أن تمتلك الإرادة القوية لِلاستغناء والتخلي، عندما يكون التعلق مدمِّرًا. يجب أن تمتلك الإرادة لِلخروج من دوائر الراحة التي لا هدف فيها، إلى فضاء الحرية بكل ما تَحمل من مسؤوليات وأعباء، ويجب أن تتحلى بالإرادة القوية للاستمرار في العوم في بحور الحياة وتجاربها المنهكة، حتى تصل إلى شط التدبر والفهم.

بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن أن أتذكَّر رمضان دون أن تقودني النوستالجيا إلى شوارع مصر، بأسواقها وفوانيسها وزينتها، وصوت محمد عبد المطلب يصدح بـ"رمضان جانا وفرحنا به". هذا هو رمضان الذي أُحبّ، رمضان البساطة والعبادة، والترفيه الراقي الذي لم يكن يومًا مبتذلًا أو سطحيًّا، رمضان الدراما الراقية والفوازير الممتعة، رمضان التدين المعتدل الذي كانت مصر تتزعَّمه.

لطالما كانت مصر منارة للأدب والفن والدين في نفس الوقت. الشعب المصري نجح في أن يكون شعبًا متدينًا محبًّا للحياة راغبًا فيها، وكان يملك من خلال الفن والدراما القدرة على التأثير في الدول العربية الأخرى. لم يكن المسلسل التلفزيوني ساعة ترفيه، بل كانت هذه الساعة حصة تعليمية نكتسب منها معرفةً نابعة من تجربة الكاتب، الذي غالبًا ما كان أديبًا معروفًا. الدراما المصرية أثَّرت في تكويننا، وأضافت إلى تجربتنا بسبب عمق الكتابة والهدف وجودة الإخراج وواقعيته. ولا يخفى على أحد التراجع الحضاري في بعض الدول العربية، بسبب تراجع دور مصر التنويري، وصعود تيارات متشددة بمباركة السلطات السياسية آنذاك، كان لها تأثير مدمِّر على مدى عقود. فلم نَخرج منها بفكر أو إبداع أو تعمير، بل أعادتنا -برأيي- سنوات إلى الخلف، لدرجة أننا ننظر إلى صور عواصم عربية في منتصف القرن السابق متحسِّرين على حالنا.

كان الفن -وسيبقى- شريكًا أساسيًّا في معارك التوعية، لكن الفن الذي لا تُظلِّله الحرية أعرج، ولا يزيد عن كونه تسلية لتمضية الوقت. الفن ليس أداة بيد جهة معينة لنشر أفكارها، الفن حر لا تُكبِّله قيود، ولا تخنقه رقابة. ما أحوجنا إلى حركة ثقافية وفنية تُبنَى على حرية الفكر والتعبير، لتُقدِّم للمُشاهِد فنًّا هادفًا راقيًا يؤثِّر ويساعد في نهضة المجتمعات. وما أحوجنا إلى عودة مصر إلى مكانها الطبيعي في الفن والثقافة، وما أحوجنا إلى الحرية.

 ورمضان مبارك

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive