الرجوع

مبادرات صغيرة لكنها عظيمة

الثلاثاء

م ٢٠٢٢/٠٣/٢٢ |

هـ ١٤٤٣/٠٨/١٩

لا شك عندي في أن كل فرد منا، سأل نفسه في مرحلة من مراحل حياته هذا السؤال: "لماذا أنا بالذات؟". ربما وجّهتَ هذا السؤال إلى نفسك عندما ساقتك الحياة إلى منعطف خطير، فوقفتَ على الحافة خائفًا/ة مرعوبًا، أو عندما نزلت بك مصيبة لا تتوقعها، أو مررت بأزمة مالية أو عاطفية، أو أصابك مرض ما. هذه الظروف والأحوال لا بد أننا مرَرْنا -أو سنمرُّ- بها أو ببعضها، وقد نحصل على إجابات عن سبب حدوثها لنا لاحقًا، وقد يمر العمر ويعجز عقلنا عن فهم أهدافها ومسبباتها؛ حتى أنا -الإنسانة المؤمنة بالله وقضائه- تحيرني الإجابة عن هذه الأسئلة أيضًا، وإن كنت أرفض مبدأ عبثية الحياة، وأحيل كل حدث إلى محكمة العقل والقلب والإيمان، محاوِلةً استقصاء الحكم والمغزى.

في آخر أيام العام الماضي، فاجأتني صديقة عزيزة بخبر صادم، وهو تشخيص حالتها المَرضيَّة باسم "MDS"، وهو مرض ينتج من وجود خلايا سرطانية في الدم، ويوصَف بأنه المرحلة التي تسبق مرحلة سرطان الدم "لوكيميا". في لحظة شعرت بهزة، وأسئلة كثيرة أحاطت بي من كل جانب، أبرزُها: "لماذا هي؟". لطالما كانت نادية بالنسبة إليَّ صديقة على هيئة ملاك، حياتها واهتماماتها كلها منصبَّة في خدمة القضايا المحقة والناس. لطالما كانت إنسانة معطاءة متفانية في خدمة الإنسانية. فلماذا هي؟

أسئلة ظلت تدور في رأسي، إلى أن فأجتني نادية برغبتها في البدء بحملة للتشجيع على التبرع بالنخاع (نقي العظام). إن رحلة العلاج التي تمر بها، جعلتها تدرك أمورًا لم تكن تعرفها، ولم أكن انا أعرفها قبل مرضها. هناك بنوك للنخاع في مناطق كثيرة في العالم، كبنوك الدم التي اعتدنا وجودها في بلادنا، إلا أننا يا للأسف نفتقر إلى وجود بنوك النخاع في دول عربية كثيرة؛ ما يجعل حياة المرضى بالسرطان في خطر، في حال عدم وجود متبرع ملائم من العائلة. فوجود هذه البنوك يسهل العثور على نخاع ملائم لعملية زرع النخاع، لمرضى السرطان والأمراض الأخرى.

بدأت نادية حملتها، وأعادت لي إيماني بأن كل أمر يحصل هو لسبب. لقد وجدَت نادية المقيمة في كندا النخاع المناسب للعملية، من متبرع لبنك النخاع مقيم في ألمانيا، وستُجري العملية قريبًا. وأيضًا ستُكمل حملتها للتشجيع على التبرع بالنخاع بعد أن تشفى بإذن الله، لتحوِّل التجربة القاسية التي مرت بها إلى مبادرة إنسانية تفيد ملايين المرضى.

إنجازات عظيمة وكثيرة في الحياة، بدأت بمبادرات فردية صغيرة، وكانت نتاج تجارب صعبة، منها مبادرة أمٍّ أردنية إلى التوعية بأسس التعامل مع أطفال التوحُّد. فبعد أن واجهت تلك الأم مشاكل في فهم حالة ابنها وطريقة التعامل معه، درست وبحثت وسافرت إلى الخارج، لتعود إلى بلدها ومعها المعلومات اللازمة والتصميم على مساعدة مئات الأمهات والأطفال. 

لا أستطيع أن أتحدث بكل المبادرات العظيمة التي أقرأ عنها كل يوم، لكني أذكر منها: مبادرة شابة مصرية تجمع التبرعات لتحسين أحوال المدارس التي هي أقل حظًّا، ومبادرة مجموعة من المواطنين بدأوا بشكل فردي، ثم انضَوَوا تحت مظلة واحدة تجمع الآلاف لأهداف إنسانية عظيمة، كتكريس فكرة المواطنة والعيش المشترك، في أقطار مصر ولبنان والعراق، حتى في أكثر الدول التي تعاني النزاعات الطائفية. هذه المبادرات بدأت في الأغلب بامتحان أو منعطف في حياة أفراد، قد يكون بعضهم عانى ظلم الطائفية. وبدلًا من تأجيجها للانتقام، قرروا أن ينشروا فكرًا مختلفًا ينشد حياة أفضل للأجيال القادمة، فحولوا المحنة إلى منحة للتغيير الإيجابي.

بعضهم يستهين بهذه المبادرات الصغيرة، لكنني أجد أن تراكم هذه المحاولات هو الذي يخلق التغيير الكبير القائم على الوعي، لأنه يستهدف الناس على الأرض لتحقيق مصالح إنسانية. هذه المبادرات الصغيرة تتغلغل في القاعدة العريضة، وتدمجها في رحلة التغيير المبنية على التوعية والعمل الاجتماعي. أهدافها إنسانية بحتة، توحد الناس بمختلف أصولهم وأديانهم نحو هدف جامع، وهو الخير للجميع. هذه المبادرات تستحق منا الدعم والمساعدة، خصوصًا مع سهولة الوصول إلى الناس عبر وسائل الاتصال الاجتماعي. وهنا يأتي دورنا جميعًا، نحن مِن خلف شاشاتنا علينا أن ندعم كل مبادرة جيدة -وإن كانت صغيرة-، لعلها تنير شمعة في درب الأجيال القادمة.

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive